وكان شيخ شيوخنا سيدى على الجمل رضي الله عنه يقول : (عداوة العدو حقا هى اشتغالك بمحبة الحبيب حقا ، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو فاتتك محبة الحبيب ، ، ونال العدو مراده منك). ه. وأخرجوهم من قلوبكم من حيث أخرجوكم من حضرة ربكم ، يعنى : كما أخرجوكم من الحضرة فى أيام الغفلة ، أخرجوهم من قلوبكم فى أيام اليقظة. والفتنة بالاشتغال بهم أشد من القتل لهم ، ولا تقاتلوهم عند مسجد الحضرة وحال الغيبة فى الله ، فإن ذلك التفات إلى غير الله ، كمن كان مقبلا عليه حبيبه فجعل يلتفت إلى من يكلمه ويشغله عنه. وذلك فى غاية الجفاء ، حتى يقاتلوكم فيه ، ويريدون أن يخرجوكم منه بوسوستهم ، فإن قاتلوكم ، وخطر على بالكم شىء من وسوستهم ، فاقتلوهم بذكر الله ، والتعوذ منهم ، فإن الله يكفيكم أمرهم ، وينهزمون عنكم ، كذلك جزاء الكافرين. فإن انتهوا عنكم ، وانقطع عنكم خواطرهم ، فغيبوا عنهم فإن الله يستركم عنهم ، وقاتلوهم على الدوام حتى لا تكون فى قلوبكم فتنة منهم ، ويكون التوجه كله لله ، لا ينازعه شيىء مما سواه ، فإن انتهوا عنكم فلا تتعرضوا لهم ؛ فإن ذلك عدوان وظلم ، (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ).
فإن جنحت نفسك إلى حرمة الطاعة الظاهرة ؛ كتدريس علم أو جهاد أو صلاة أو غيرها ، وأرادت أن تخرجك من حرمة الحضرة القدسية ؛ وهى الفكرة والشهود والمعاينة ، فقاتلها وأخرجها من حرمة تلك الطاعة ، فالحرمات قصاص. فكما أخرجتك من حضرة ربك القدسية أخرجها من حضرة الطاعة الحسية إلى الطاعة القلبية. فإن الذّرّة من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح.
فمن اعتدى عليكم ، فى زمن البطالة ، فاعتدوا عليه فى زمن اليقظة بمثل ما اعتدى عليكم. وكان شيخنا البوزيدى رضي الله عنه يقول : جوروا على نفوسكم بقدر ما جارت عليكم. ه. أي : اقتلوها بقدر ما قتلتكم بالبعد عن ربكم. وكان أيضا يقول : (جوروا على الوهم قبل أن يجور عليكم). ه. واتقوا الله فإن الله يعينكم عليها ، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ). وأنفقوا أنفسكم ومهجكم فى سبيل الله ، بأن تطرحوها فى يد الله يفعل بها ما يشاء. (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) فتدبروا لها ، وتختاروا لها ، وتعتنوا بشئونها ، فإن ذلك غفلة عن ربكم. (وَأَحْسِنُوا) أي : ادخلوا فى مقام الإحسان ؛ بإن تعبدوا الله كأنكم ترونه (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي : يقربهم إلى حضرته ، ويصطفيهم إلى محبته ومعرفته ، خرطنا الله فى سلكهم بمنّه وكرمه.
ثم أمر الحق تعالى بإتمام النسك الذي دخل فيه ، وحض على الإخلاص فيه ، فقال :
(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ...)