ولمّا ذكر الحق تعالى هدى الإحصار وفدية الأذى ، ذكر هدى التمتع ، فقال :
(... فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١٩٦))
يقول الحق جل جلاله : فإذا حصل لكم الأمن من المرض أو العدو ، وأردتم الحج (فَمَنْ تَمَتَّعَ) منكم (بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) بأن قدّم العمرة فى أشهر الحج ، ثم حج من عامة ، فالواجب عليه (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ؛ شاة فأعلى ؛ لكونه تمتّع بإسقاط أحد السّفرين ولم يفرد لكل عبادة سفرا مخصوصا. (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) الهدى ، ولم يقدر على شرائه ، فعليه (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) فى زمن (الْحَجَ) ، وهو زمن إحرامه إلى وقوفه بعرفة ، فإن لم يصم فى ذلك الزمان صام أيام التشريق. ثم يصوم سبعة أيام إذا رجع إلى مكة أو إلى بلده. فتلك (عَشَرَةٌ) أيام (كامِلَةٌ) ، ولا تتوهموا أن السبعة بدل من الثلاثة ، فلذلك صرح الحق تعالى بفذلكة الحساب (١).
وهذا الهدى أو الصيام إنما يجب على المتمتع ؛ إذا لم يكن ساكنا بأهله فى مكة أو ذى طوى ، وأما من كان (أهله حاضرى المسجد الحرام) فلا هدى عليه ؛ لأنه يحرم بالحج من مكة فلم يسقط أحد السفرين ، (وَاتَّقُوا اللهَ) فى امتثال أوامره ، وخصوصا مناسك الحج ؛ لكثرتها وتشعب فروعها ، ولذلك أفردت بالتأليف ، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن ترك أوامره وارتكب نواهيه. وبالله التوفيق.
الإشارة : يقول الحق جل جلاله على طريق الإشارة للمتوجهين إليه : فإذا أمنتم من أعدائكم الذين يقطعونكم عن الوصول إلى حضرتنا ، أو أمنتم من الرجوع بعد الوصال ، أو من السلب بعد العطاء ، وذلك بعد التمكين من شهود أسرار الذات ، وأنوار الصفات ، إذ الكريم إذا أعطى لا يرجع ، فإذا حصل لكم الأمن ، فمن تمتع بأنوار الشريعة إلى أسرار الحقيقة فعليه ما استطاع من الهدى والسمت الحسن والخلق الحسن ؛ لأنه إذ ذاك قد اتصف بصفة الكمال وتصدّر لتربية الرجال ، فمن لم يجد ذلك فليرجع إلى ما تيسر من المجاهدة حتى يتمكن من ذلك الهدى الحسن والخلق الحسن ، هذا لمن لم يتمكن فى الحضرة الأزلية ، وأما من كان مقيما بها ، عاكفا فى شهود أنوارها ، فلا كلام عليه ، لأنه قد تولاه مولاه ، وغيّبه عن شهود نفسه وهواه ، فأمره كله بالله وإلى الله. جعلنا الله فيهم بمنّه وكرمه ،
__________________
(١) الفذلكة : مجمل ما فصل وخلاصته.