فالموجب الأول : الحسن والجمال ، والآخر الإحسان والإجمال ، فأما الجمال فهو محبوب بالطبع ، فإن الإنسان بالضرورة يحب كل ما يستحسن ، ولا جمال مثل جمال الله تعالى ، فى حكمته البالغة وصنائعه البديعة ، وصفاته الجميلة الساطعة الأنوار ، التي تروق العقول وتبهج القلوب ، وإنما يدرك جماله تعالى بالبصائر لا بالأبصار.
وأما الإحسان فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ، وإحسان الله إلى عباده متواتر ، وإنعامه عليهم باطن وظاهر ، (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) ، ويكفيك أنه يحسن إلى المطيع والعاصي ، وإلى المؤمن والكافر ، وكل إحسان ينسب إلى غيره فهو فى الحقيقة منه وحده ، فهو المستحق للمحبة وحده.
واعلم أن محبة الله إذا تمكنت من القلب ظهرت آثارها على الجوارح ، من الجد فى طاعته ، والنّشط لخدمته ، والحرص على مرضاته والتلذذ بمناجاته ، والرضا بقضائه ، والشوق إلى لقائه ، والأنس بذكره ، والاستيحاش من غيره ، والفرار من الناس ، والانفراد فى الخلوات ، وخروج الدنيا من القلب ، ومحبة كل ما يحب الله ، وكل من يحب الله ، وإيثار الله على كل ما سواه.
قال الحارث المحاسبى : (المحبة ميلك إلى المحبوب بكلّيتك ، ثم إيثارك له على نفسك وروحك ، ثم موافقته سرّا وجهرا ، ثم علمك بتقصيرك فى حبه).
قلت : ظاهره أن المحبة أعلى من المعرفة ، والتحقيق أن المعرفة أعلى من جميع المقامات ؛ لأنها لا تبقى معها بقية من الحجاب أصلا ، بخلاف المحبة ، فإنها تكون مع بقية الحجاب ، ألا ترى أن المحب يستوحش من الخلق ، والعارف لا يستوحش من شىء لمعرفته فى كل شىء.
قال فى الحكم : (إنما استوحش العبّاد والزهاد من كل شىء لغيبتهم عن الله فى كل شىء ، ولو عرفوا الله فى كل شىء ما استوحشوا من شىء). وأيضا : العارف أكمل أدبا من المحب ؛ لأن المعرفة إنما تحصل بعد كمال التهذيب والتدريب ، وقد تحصل المحبة قبل كمال التهذيب ، مع أن المعرفة هى غاية المحبة ونهايتها ، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر الحق وعيد من أشرك مع الله فى عبادته أو محبته ، بعد وضوح برهان وحدانيته ، فقال :
(... وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (١٦٦) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّـهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧))