الثاني : كشف الحجب ، وإزالة الموانع عن ناظر القلب ، حتى يرى جمال الحق وكماله ، والجمال محبوب بالطبع ، وهذان هما اللذان قصدت رابعة العدوية ـ رضى الله عنها ـ :
أحبّك حبّين : حبّ الهوى |
|
وحبّا لأنك أهل لذاك |
فأمّا الذي هو حبّ الهوى |
|
فشغلى بذكرك عمّن سواك |
وأمّا الذي أنت أهل له |
|
فكشفك للحجب حتى أراك |
فلا الحمد فى ذا ولا ذاك لى |
|
ولكن لك الحمد فى ذا وذاك |
وإنما خصّصت الحبّ الناشئ عن شهود الجمال بالأهلية دون الأول ، وإن كان أهلا للجميع ؛ لأن هذا منه إليه ، لا كسب للعبد فيه ، والآخر فيه كسب ، وعمل العبد معلول ، وقولها : (فشغلى بذكرك عمن سواك) من باب التعبير بالمسبب عن السبب ، والأصل : فثمرته شغلى بذكرك عمن سواك ، فهو مسبب عن المحبة لأنفسنا ، وقولها أيضا (كشفك للحجب حتى أراك) ، من باب التعبير بالسبب عن المسبب ، والأصل ، فبسببه كشفك للحجب حتى رأيتك بعيني قلبى. وقولها : (فلا الحمد ...) إلخ ، إخبار منها بأن الحبّين معا منه وإليه وبه فى الحقيقة ، لا كسب لها فى واحد منهما باعتبار الحقيقة ، بل هو الحامد والمحمود ، وإدراك التفاوت بين المقامين ، ـ أعنى بين المحبة الناشئة عن شهود الإحسان ، والناشئة عن شهود الجمال ـ ضرورى عند كل ذائق ، وأن الثانية أقوى. قاله فى شرح الشريشية (١).
قال ابن جزىّ : اعلم أن محبة العبد لربه على درجتين ؛ أحدهما : المحبة العامة ، التي لا يخلو منها كل مؤمن ، وهى واجبة ، والأخرى : المحبة الخاصة التي ينفرد بها العلماء الربّانيون والأولياء والأصفياء ، وهى أعلى المقامات ، وغاية المطلوبات ، فإنّ سائر مقامات الصالحين : كالخوف والرجاء والتوكل ، وغير ذلك ، مبنية على حظوظ النفس ، ألا ترى أن الخائف إنما يخاف على نفسه ، والراجي إنما يرجو منفعة نفسه ، بخلاف المحبة ، فإنها من أجل المحبوب فليست من المعاوضة.
واعلم أن سبب محبة الله : معرفته ، فتقوى المحبة على قدر المعرفة ، وتضعف على قدر ضعف المعرفة ، فإن الموجب للمحبة أحد أمرين أو كلاهما إذا اجتمعا ، ولا شك أنهما اجتمعا فى حق الله تعالى على غاية الكمال ؛
__________________
(١) الشريشية للشيخ أحمد بن محمد البكري الشريشى ، وشارحها أحمد بن يوسف الفاسى.