قاس إبراهيم الخليل الرزق على الإمامة ، فنّبه سبحانه وتعالى أن الرزق رحمة دنيوية ، تعم المؤمن والكافر ، بخلاف الإمامة ، والتقدم فى الدين ، فإنها سبب النعيم الأخروى ، ولا ينالها إلا أهل الإيمان والصلاح.
الإشارة : دعاء الأنبياء عليهمالسلام ، كما يصدق بالحس يصدق بالمعنى ، فيشمل دعاء الخليل القلوب التي هى بلد الإيمان ، والأرواح التي هى معدن الأسرار والإحسان ، فتكون آمنة من طوارق الشيطان ، ومحفوظة من الوقوف مع رؤية الأكوان ، آمنة من الأكدار ، محفوظة من رؤية الأغيار ، فيرزقها الله من ثمرة العلوم ، ويفتح لها من مخازن الفهوم ، من آمن منهم بالشريعة الظاهرة ، وجاهد نفسه فى عمل الطريقة الباطنة ، حتى أشرقت عليه أنوار الحقيقة العيانية ، وأما من كفر بطريق الخصوص ، ووقف مع ظواهر النصوص ، فإنما يمتّع بعلم الرسوم الذي حدّ حلاوته اللسان ، ثم يلجأ إلى عذاب الحجاب ، وسوء الحساب ، ولم يفض إلى حلاوة الشهود والعيان ، التي يمتع بها الجنان حتى يفضى إلى نعيم الجنان ، فيتم النعيم بالنظر إلى وجهه الكريم ، منحنا الله من ذلك حظا وافرا بمنّه وكرمه.
ثم ذكر الحق تعالى كيفية بناء البيت ، وما كان شعارهما فى حالة بنائه ، فقال :
(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧))
قلت : (القواعد) جمع قاعدة ، وهى الأساس ، وكأنه مأخوذ من القعود بمعنى الثبات ، وأما القواعد من النساء ، فجمع قاعد ، بلا تاء ، لأنه وصف خاص بالنساء ، فلا يحتاج إلى تمييز التاء ، و (ربنا) منصوب على النداء محكى بحال محذوفة ، أي : حال كونهم قائلين ربنا ... إلخ.
يقول الحق جل جلاله : واذكر وقت رفع (إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) ، وبنائهما له ، بعد أن درس بالطوفان ، وكان بناء آدم عليهالسلام لما أهبط إلى الأرض بإعلام الملائكة. كان إبراهيم عليهالسلام يبنى ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، فنسب البناء لهما لتعاونهما ، وقيل : كانا يبنيان كلّ فى ناحية ، حال كونهما قائلين : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) عملنا هذا ، (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لدعائنا ، (الْعَلِيمُ) بنياتنا وسرائرنا.
الإشارة : ينبغى للعبد أن يرفع قواعد إسلامه ، ويشيد دعائمه بتحقيق أركانه ، كإتقان الشهادتين بتحقيق معانيها ، وإتقان الصلاة بإتقان أركانها الظاهرة والباطنة ، وإتقان الزكاة بإخلاص أدائها ، وإتقان الصيام بتحصيل آدابه ، وإتقان الحج بتحصيل مناسكه بعد وجوبه ، ويرفع أيضا قواعد إيمانه بتحقيق أركانه ، وهى : الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره ، حلوه ومره ، اعتقادا وذوقا ، ويرفع أيضا قواعد إحسانه ،