بتحصيل مراتبه ، كتحقيق المشاهدة ، وهو أن يعبد الله كأنه يراه ، فإن لم يستطع فليعبده كأن الله يراه ، وإن شئت قلت : رفع قواعد الإسلام يكون بتحقيق التوبة والتقوى والاستقامة ، ورفع قواعد الإيمان يكون بتحقيق الإخلاص والصدق والطمأنينة ، ورفع قواعد الإحسان يكون بالمراقبة والمشاهدة والمعرفة ، كما قال الساحلى ـ رحمهالله ـ.
ثم ذكر الحق تعالى دعاءهم بعد البناء ، فقال :
(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩))
قلت : قال ابن عباس رضي الله عنه : لما فرغ إبراهيم وإسماعيل من بناء البيت ، دعوا بهذا الدعاء ، فقالا : (ربنا واجعلنا مسلمين لك) أي : منقادين لأوامرك الظاهرة ولأحكامك القهرية.
واجعل (مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً) أي : جماعة (مُسْلِمَةً لَكَ). علما ـ بوحي أو إلهام ـ أنه يكون من ذريتهما من يكفر بالله ، (وَأَرِنا) أي : عرفنا وعلمنا (مَناسِكَنا) فى الحج. والنّسك فى الأصل : غاية العبادة ، وشاع فى الحج لما فيه من المشاق والكلفة ، والبعد عن العادة. (وَتُبْ عَلَيْنا) مما لا يليق بحالنا ، فحسنات الأبرار سيئات المقربين ، فلكل مقام ما ينقصه وإن كان كاملا. ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يستغفر فى المجلس سبعين مرة. إذ ما من مقام إلا وقبله ما فيه نقص ، فإذا ترقى عنه استغفر منه ، (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي : كثير القبول والإقبال على التائبين.
(رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ) أي : فى الذرية (رَسُولاً مِنْهُمْ) وهو مولانا محمد صلىاللهعليهوسلم قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «أنا دعوة أبى إبراهيم ، وبشارة عيسى» ، حال كونه (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ) أي : يبلغهم (آياتِكَ) الدالة على توحيدك وصدق رسالتك ، (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) أي : القرآن (وَالْحِكْمَةَ) أي : الشريعة أو السنة. وقال مالك : هى الفقه فى الدين والفهم فيه ، أو نور يضعه فى قلب من شاء من عباده ، (وَيُزَكِّيهِمْ) أي : يطهرهم من لوث المعاصي وكدر الحس ، (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الغالب فى حكمه وسلطانه ، (الْحَكِيمُ) فى صنعه وإتقانه ، والله تعالى أعلم.
الإشارة : تضمن دعاؤهما عليهماالسلام ثلاثة أمور يطلب التماسها والتحقق بها من كل أحد ؛ أولها : الانقياد لله فى الظاهر والباطن ، بامتثال أمره والاستسلام لقهره ، حتى يسرى ذلك فى الأصل إلى فرعه ، وهى غاية المنة ، قال فى الحكم : «متى جعلك فى الظاهر ممتثلا لأمره ، وفى الباطن مستسلما لقهره ، فقد أعظم منته