وملئ بالأنوار ، وتمكنت فيه المعارف والأسرار ، كان مرجعا وملجأ للعباد ، كل من وصل إليه ، وطاف به ، كان آمنا من الزيغ والعناد ، ومن خواطر السوء وسوء الاعتقاد ، ومن دخله بالمحبة والوداد ، أمن من الطرد والبعاد ، وكان عند الله من أفضل العباد. ومقام إبراهيم ـ عليهالسلام ـ هو الاستغراق فى عين بحر الشهود ، ورفع الهمة عن ما سوى الملك المعبود.
وهذا المقام هو الذي اتخذه العارفون كعبة لصلاة قلوبهم ، وغاية لمنتهى قصودهم.
عباراتهم شتّى ، وحسنك واحد ، |
|
وكلّ إلى ذاك الجمال يشير |
وقد عهد الله تعالى إلى أنبيائه وأصفيائه أن يطهروا قلوبهم من الأغيار ، ويرفضوا كل ما سواه من الأكدار ، لتتهيأ بذلك لطواف الواردات والأنوار ، ولعكوف المعارف والأسرار ، وتخضع لهيبتها ظواهر الأشباح ، وتنقاد لجمال بهجتها القلوب والأرواح ، وما ذلك على الله بعزيز.
ثم ذكر الحق تعالى دعاء إبراهيم الخليل لمكان البيت ، زيادة فى تشريفه ، فقال :
(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦))
قلت : الإشارة تعود إلى المكان ، أو البلد ، أي : اجعل هذا المكان بلدا ذا أمن ، قال بعضهم : نكّر البلد هنا ، وعرّفه فى سورة إبراهيم ، لأن هذا الدعاء وقع قبل أن يكون بلدا ، وفى سورة إبراهيم وقع بعد أن كان بلدا فلذلك عرّفه ، وفيه نظر من جهة التاريخ ، وسيأتى تمامه هناك إن شاء الله.
وقوله : (من آمن) : بدل من (أهله) ، بدل البعض للتخصيص ، و (من كفر) : معطوف على (من آمن) ، على حذف المضارع ، أي : وارزق من كفر.
يقول الحق جل جلاله : (وَ) اذكر (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) فى دعائه لمكة لما أنزل ابنه بها بواد غير ذى زرع ، وتركه فى يد الله تعالى : (رَبِّ اجْعَلْ هذا) المكان (بَلَداً آمِناً) يأمن فيه كل من يأوى إليه ، (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ) أنواع (الثَّمَراتِ) ، كالحبوب وسائر الفواكه ، (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ) الحق جل جلاله : بل وأرزق أيضا (مَنْ كَفَرَ) فى الدنيا ، (فَأُمَتِّعُهُ) زمنا (قَلِيلاً) ، أو تمتيعا قليلا. (ثُمَ) ألجئه (إِلى عَذابِ النَّارِ) وبئس المرجع مصيره.