فإن منعك من ذلك حب الرئاسة والجاه ، فاستعن على ذلك بالصبر والصلاة ، فإن الصبر عنوان الظفر ، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. فأدمن قرع الباب حتى تدخل مع الأحباب ، فالإدمان على عبادة الصلاة أمره كبير ، إلا من خلص إلى مناجاة العلى الكبير ، وتحقق بملاقاة الشهود والعيان ، ورجع إلى مولاه فى كل أوان ، فإن الصلاة حينئذ تكون له من قرة العين. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولما أمرهم بالأصول والفروع ، ذكّرهم بالنعم ، وخوفهم بالوعيد على عدم شكرها ، فقال :
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨))
قلت : العدل بالفتح : الفداء ، وبالكسر : الحمل ، وجملة (لا تَجْزِي) : صفة ليوم ، والعائد محذوف ، أي : لا تجزى فيه.
يقول الحق جل جلاله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ) على آبائكم بالهداية وبعث الرسل ، (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) : أهل زمانكم ، فاذكروا هذه النعم واشكروني عليها ؛ بأن تتبعوا هذا النبي الجليل ، الذي تجدونه مكتوبا عندكم فى التوراة والإنجيل.
وخافوا (يَوْماً) لا تقضى فيه (نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) بحيث لا تجلب لها نفعا ، ولا تدفع عنها ضررا ، ولا تقبل (مِنْها شَفاعَةٌ) إن وقعت الشفاعة فيها ، ولا يؤخذ منها فداء ، إن أرادت الفداء عنها ، ولا تنتصر فى دفع العذاب ، إن أرادت الانتصار بعشيرتها. فانتفى عنها وجوه الامتناع من العذاب بأى وجه أمكن ؛ فإن الإنسان إذا أخذ للنكال احتال على نفسه إما بالشفاعة ، أو بالفداء إن لم تقبل الشفاعة فيه ، أو بالانتصار بأقاربه ، والآية فى الكفار ، فلا حجة لمن ينفى الشفاعة فى عصاة المؤمنين ، والله تعالى أعلم.
الإشارة : قد يتوجّه العتاب إلى أهل الرئاسة والجاه ، من العلماء والصالحين ، وكل من خصّ بشرف أو خصوصية ، فيقول لهم الحق تعالى : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) بالعلم أو السيادة أو الصلاح ، وبأن فضلتكم على أهل زمانكم ، وخصصتكم من أبناء جنسكم ؛ فقد روى : «أنّ العبد يحاسب على جاهه كما يحاسب على ماله». فمن صرفه فى طاعة الله ، وتواضع لعباد الله ، وسعى فى حوائجهم ، وأبلغ الجهد فى قضاء مآربهم ، كان ذلك شكرا لنعمة الجاه ؛ فقد روى فى الحديث : «من سعى فى حاجة أخيه المسلم ، قضيت أو لم تقض ، غفر له ما تقدم من ذنبه ، وكتب له براءتان : براءة من النار وبراءة من النفاق».