ان هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية بجملتها ، فلا يخاطب ذهنها لمجرد مرة. وقلبها الشاعر مرة ، وحسها المتفرد مرة ، ولكنه يخاطبها جملة من أقصر طريق. وينشىء فيها الخطاب تصورات وتأثرات وانطباعات لحقائق الوجود كلها.
والقرآن يقدم حقائق العقيدة ـ أحيانا ـ في مجالات لا يخطر للفكر البشري عادة ان يلم بها ، لانها ليست من طبيعة ما يفكر فيه عادة ، او يلتف اليه على هذا النحو.
ومن هذا القبيل ما جاء في سورة الانعام في تصوير حقيقة العلم الالهي ومجالاته :
(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها ، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ)
فهذه المصارح المترامية الخفية والظاهرة ، ليست مما يتوجه الفكر البشري الى ارتيادها على هذا النحو ، وهو في معرض تصوير شمول العلم مهما أراد تصوير هذا الشمول. ولو أن فكرا بشريا هو الذي يريد تصوير شمول العلم لاتجه اتجاهات اخرى تناسب اهتمامات الانسان وطبيعة تصوراته.
ولا يفكر البشر أن تكون كل ورقة ساقطة ، وكل حبة مخبوءة ، وكل رطب ويابس في كتاب مبين ، وفي سجل محفوظ ، فما شأنهم بهذا ، وما فائدته لهم ، انما الذي يحصيه ويسجله هو صاحب الملك الذي لا يند عنه شيء في ملكه.
ان هذا المشهد الشامل الواسع العميق الرائع ، مشهد الورق الساقط من شجر الارض جميعا والحب المخبوء في أطوار الارض ، والرطب واليابس في أرجاء الارض جميعه محصى ومسجل.