بهذا بعد هذا وتكون ظلمة الليل بمثابة الغشاوة التي تحجب النهار ، ولم يقل : يغشي النهار الليل لدلالة الكلام عليه ، فهما يتعاقبان ويغشي أحدهما الآخر تباعا ، وهذا معنى تكوير كل منهما على الآخر ـ كما مرّ في غير هذا المكان ـ (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) أي يتبعه ويتلوه سريعا فيدركه. و : حثيثا ، حال من الفاعل أو المفعول أو منهما جميعا كقوله سبحانه : فأتت به قومها تحمله ، فإن : تحمله حال كذلك (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) أي أن هذه المخلوقات العظيمة المدهشة مذلّلة لقدرته ، تجري في مجاريها بتدبيره وصنعه وقد خلقها جميعها لمصالح العباد ومنافعها. ومسخّرات منصوبة على الحال. وشذّ ابن عامر فقرأ :
والشمس والقمر والنجوم مسخّرات كلها بالرفع بحجة قوله : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ، وممّا في السماء الشمس والقمر. فإذا أخبر بتسخيرهما حسن الإخبار عنهما به ، بينما حجة النصب أنها محمولة على خلق ، بعطفها كلها على جملة السماوات والأرض (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) أي أنه الخالق المبدع الذي لا يستطيع الخلق غيره. وهو الآمر في خلقه وليس لأحد أن يأمر في خلقه غيره (تَبارَكَ اللهُ) يعني تعالى ودام وثبت وعزّ عن صفات المخلوقين الذين يحدثهم من العدم فهو دائم البركة ، والبركة تحصل بذكره جلّ وعلا لأنّه (رَبُّ الْعالَمِينَ) خالقهم ومالكهم والمتصرّف بأمورهم.
٥٥ ـ (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ...) أي ادعوا خالقكم تخشّعا له وابتهالا وسرا ، فإن دعوة السّر أسرع استجابة. فعن الحسن أن بين دعوة السّر ودعوة العلانية سبعين ضعفا. ولذا كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت مميّز اللهم إلّا الدويّ كدويّ النّحل. وتضرعا وخفية مصدران وضعا موضع الحال ، يعني : ادعوا ربكم متضرّعين ومخفين. وروي أن النبيّ (ص) كان يسير في غزاة فأشرفوا على واد فجعل الناس يهلّلون ويكبّرون ويرفعون أصواتهم فقال (ص) : يا أيها الناس ، أربعوا على أنفسكم. أما إنكم لا تدعون الأصمّ ولا غائبا.