دليله ، لاستلزام التكليف به بدون دليل الحرج وتكليف ما لا يطاق كما عرفت ، لا من حيث عدم الدليل كما ذكروا ، بل من حيث عدم الاطّلاع عليه ، إذ لا تكليف إلّا بعد البيان «والناس في سعة ما لا يعلمون».
وأشار أيضا إلى بعض الأخبار الآتية ، وقد ناقش فيه صاحب الفوائد المدنيّة بأنّ التمسّك بالبراءة الأصليّة من حيث هي هي إنّما يجوز قبل إكمال الدين ، وأمّا بعد أن كمل الدين وتواترت الأخبار عن الأئمّة الأبرار صلوات الله عليهم أجمعين بأنّ كلّ واقعة يحتاج إليها الامّة إلى يوم القيامة ورد فيها خطاب قطعي من قبله تعالى حتّى أرش الخدش ، فلا يجوز قطعا ، وكيف يجوز وقد تواترت الأخبار عنهم عليهم الصلاة والسلام بوجوب التوقّف في كلّ واقعة لم نعلم حكمها معلّلين بأنّه بعد أن كمل الدين لا يخلو واقعة عن حكم قطعي وارد من الله تعالى ، وبأنّ من حكم بغير ما أنزل الله فاولئك هم الكافرون؟
ثمّ أقول : هذا المقام ممّا زلّت فيه أقدام أقوام من فحول العلماء ، فحريّ منّا أن نحقّق المقام ، ونوضّحه بتوفيق الملك العلّام ودلالة أهل الذكر عليهمالسلام.
فنقول : التمسّك بالبراءة الأصليّة إنّما يتمّ عند الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح الذاتيّين ، وكذلك عند من يقول بهما ولا يقول بالوجوب والحرمة الذاتيّين ، وهو المستفاد من كلامهم عليهمالسلام وهو الحقّ عندي ثمّ على هذين المذهبين إنّما يتمّ قبل إكمال الدين لا بعده ، إلّا على مذهب من جوّز من العامّة خلوّ الواقعة عن حكم وارد من الله تعالى.
لا يقال بقي أصل آخر وهو أن يكون الخطاب الّذي ورد من الله تعالى موافقا للبراءة الأصليّة.
لأنّا نقول : هذا الكلام ممّا لا يرضى به لبيب ، وذلك لأنّ خطابه تعالى تابع للحكم والمصالح ، ومقتضيات الحكم والمصالح مختلفة ، إلى أن قال : لا يعلمها إلّا هو جلّ جلاله.
ونقول : هذا الكلام في قبحه نظير أن يقال : الأصل في الأجسام تساوي نسبة طبائعها إلى جهة السفل والعلو ، ومن المعلوم بطلان هذا المقال.