وأمّا إذا كانت متباينة بأن كان أرباب الظنون الخاصّة مختلفين من غير أن يكون هناك ظنّ متّفق عليه بينهم ، أو كان ولم يكن وافيا بالأحكام كان اللازم الحكم بحجّية جميع تلك الظنون ، لدوران البعض المحكوم بحجّيته قطعا بين تلك الظنون ، ولا ترجيح بينها فيجب الأخذ بجميعها من غير أن يتسرّى إلى غيرها ممّا يتعدّى عن تلك المرتبة ، فالقدر الثابت من تلك المقدّمات القاضية بحجّية الظنّ على سبيل الإهمال هو الحكم بحجّية البعض ، ولمّا دار ذلك البعض بين ظنون عديدة كان قضيّة انضمام المقدّمة الرابعة ـ أعني عدم الترجيح بينها وبطلان الترجيح بلا مرجّح ـ هو حجّية جميع تلك الظنون ولا يتعدّى إلى غيرها من سائر الظنون.
فإن قلت : إنّ المرجّح للأخذ بالبعض إنّما هو الأخذ بالمتيقّن بعد إثبات حجّية الظنّ في الجملة ، وإذا دار ذلك البعض بين ظنون عديدة وقع الاختلاف فيها انتفى المرجّح المذكور فلا قاضي إذن بترجيح البعض ، بل تتساوى تلك الأبعاض وغيرها من الظنون ، لوقوع الخلاف في الجميع.
قلت : إنّ هناك درجتين لتسرية الحجّية إلى الظنون :
أحدهما : أن يحكم بحجّية تلك الأبعاض الخاصّة بعد العلم بحجّية الظنّ في الجملة ، ودوران الحجّية بين جميع تلك الأبعاض وبعضها نظرا إلى انتفاء الترجيح بين تلك الأبعاض وعدم المناص عن العمل.
وثانيهما : أن يتسرّى إلى جميع الظنون منها ومن غيرها.
ومن البيّن أنّ العقل حين جهالته ودوران الأمر عنده بين الوجهين إنّما يأخذ بالأخصّ ، فإنّ المهملة إنّما تكون كلّية على قدر ما قام الدليل القاطع عليه دون ما يزيد عليه.
والحاصل : أنّه بعد قيام الاحتمالين المذكورين إذا لم يقم دليل خاصّ على شيء منهما كان قضيّة حكم العقل في شأن الجاهل بالحال هو الاقتصار على الأقلّ ، وعدم تسرية الحكم إلى ما عدا تلك الظنون أخذا بالمتيقّن على التقدير المفروض.