فصل
قد دريت في الأصول : أنّ الوجود ـ بما هو وجود ـ خير محض ، وأنّ الشرور كلّها راجعة إلى الأعدام ، فليس للشرّ مبدأ بالذات ، ولا هو داخل في القضاء الإلهي إلّا بالعرض؛ وذلك لأنّ من الشرّ ما هو من لوازم الماهيات الّتي لا علّة لها ، وهو عدم ، ليس ذلك العدم هو عدم مقتضى طباع الشيء ، ولا ما يمكن حصوله من الكمالات والخيرات كقصور الممكن عن الوجود الواجبي ، والوجوب الذاتي ، وكذا قصور كلّ تال من العقول الفعّالة عن سابقه ، وقصور النفوس عن العقول ، والأجسام عن النفوس ، والهيولى عن الجميع ، وبالجملة على تفاوت إمكاناتهم ، بحسب تفاوت مراتبهم في البعد عن ينبوع الوجود ، فهذا الشرّ منبعه الإمكان الذاتي ، وظاهر أنه ليس له لمّية ؛ إذ من المعلوم أنه ليس للماهيات في كونها ممكنة ، ولا في حاجتها إلى علّة سبب ، ولا لقصور الممكن عن درجة الواجب بذاته ، ولا لتفاوت مراتب هذا النقصان في الماهيات علة ، بل إنّما ذلك لاختلاف الماهيات في حدود ذواتها ، لا لأمر خارج عنها ، كما أشرنا إليه مرارا ، ولو كان النقصان في الجميع متشابها لكانت الماهيات ماهية واحدة ، فهذا القسم من الشرّ ليس بشرّ حقيقة.
ومنه ما لا يكون من هذا القبيل ، بل يلحق الماهية لا من ذاتها ، وهو عدم مقتضى الشيء ، أو ما يمكن حصوله له من الكمالات الثانية وغيرها ، كالجهل ـ مثلا ـ للإنسان المستعدّ للعلم ، المشتاق إليه ، لا من حيث إنه إنسان ، بل من حيث إنه وجد هذا الاستحقاق والاشتياق الّذي لا صلاح في أن يعمّ.
ولا يتصوّر هذا في غير المادّيات ؛ لأنّ غير المادي على أكمل ما يتصوّر