فمما ذهب إليه «المعلم الأول» ومن تابعه من الحكماء المتقدمين ، وقفا أثره من فلاسفة الإسلاميين : أن الباري ـ تعالى ـ واحد من كل جهة ، وأنه لا يلحقه الانقسام والكم بوجه ما ، وأنه ليس لذاته مبادئ يكون عنها ، ولا صفة زائدة عليها ، وبنوا على ذلك أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد ، وإلا فلو صدر عنه اثنان لم يخل : إما أن يتماثلا من كل وجه أو يختلفا من كل وجه أو يتماثلا من وجه ويختلفا من وجه ، فإن تماثلا من كل وجه فهما شيء واحد ولا تعدد ولا كثرة ، وإن اختلفا من كل وجه أو وجه دون وجه فهما في الجملة مختلفان ، وإذ ذاك فصدورهما عما هو واحد من كل وجه ممتنع ، لأن صدورهما عنه إما أن يكون باعتبار جهة واحدة ، أو باعتبار جهتين ، لا جائز أن يقال بالأول ؛ إذ الاختلاف مع اتحاد الموجب محال ، ولا جائز أن يقال بالثاني وإلا فالجهات إما خارجة عن ذاته ، أو هي له في ذاته : فإن كانت خارجة عن ذاته فالكلام فيها كالكلام في الأول ، وذلك يفضي إلى التسلسل أو الدور ، وكلاهما محالان. وإن كانت لذاته وفي ذاته فممتنع ؛ إذ هو واحد من كل وجه ، فلم يبق إلا أن يكون الصادر عنه واحدا لا تعدد فيه ولا كثرة.
ولا يجوز أن يكون ذلك الواحد مادة ولا صورة مادة ، إذ كل واحدة لا وجود لها دون الأخرى ، فإنا لو قدرنا وجود كل واحدة دون الأخرى لم تخل ، إما أن تكون متحدة أو متكثرة ، فإن كانت متحدة فهي لذاتها ، وما اتحد منهما لذاته فالكثرة عليه مستحيلة ، والمواد والصور متكثرة. وإن كانت متكثرة ، فتكثر كل واحدة مع قطع النظر عن الأخرى محال ، كيف وإنه يلزم أن يكون التكثر لذاتها ، ويلزم أن لا تتحد والوحدة عليها جائزة ، فإذا لا وجود لكل واحدة إلا بالأخرى ، ويمتنع أن تكون إحداهما علة للأخرى ، إذ العلة وإن كانت مع معلولها في الوجود فلا بد وأن تكون متقدمة عليه بالذات ، وليس ولا واحدة من المادة والصورة متقدمة على الأخرى بالذات ، ولا بد أن تكونا مستندتين إلى موجود خارج عنهما ، وذلك الخارج لا يجوز