الجزم ، واللازم الحتم ، على كل ذي عزم ، البداية بتقديم النظر في الأشرف الأجل ، والأسنى منها في المرتبة والمحل.
وأشرف العلوم إنما هو العلم الملقب بعلم الكلام ، الباحث عن ذات واجب الوجود وصفاته ، وأفعاله ومتعلقاته ، إذ شرف كل علم إنما هو تابع لشرف موضوعه الباحث عن أحواله العارضة لذاته ، ولا محالة أن شرف موضوع هذا العلم يزيد على شرف كل موضوع ويتقاصر عن حلول ذراه كل موجود مصنوع ، إذ هو مبدئ الكائنات ، ومنشئ الحادثات ، وهو بذاته مستغن عن الحقائق والذوات ، مبرأ في وجوده عن الاحتياج إلى العلل والمعلولات. كيف والعلم به أصل الشرائع والديانات ، ومرجع النواميس الدينيات ، ومستند صلاح نظام المخلوقات.
فلا جرم سرحت عنان النظر ، وأطلقت جواد الفكر ، في مسارح ساحاته ومطارح غاياته ، وطرقت أبكار أسراره ، ووقفت منه على أغواره ، فلم تبق غمة إلا ورفعتها ولا ظلمة إلا وقشعتها ، حتى تمهد سراحه واتسع براحه ، فكنت بصدد جني ثمراته ، والتلذذ بحلواته.
ولم أزل على ذلك برهة من الزمان ، مجانبا للإخوان ، إلى أن سألني من تعينت علي إجابته ، وتحتمت علي تلبيته ، أن أجمع له مشكلات درره ، وأبين مغمضات غرره ، وأبوح بمطلقات فوائده ، وأكشف عن أسرار فرائده.
فاستخرت الله ـ تعالى ـ في إسعافه بطلبه ، واستعنته في قضاء إربه ، فشرعت في تأليف هذا الكتاب ، وترتيب هذا العجاب ، وأودعته أبكار الأفكار ، وضمنته غوامض الأسرار ، منبها على مواضع مواقع زلل المحققين ، رافعا بأطراف أستار عورات المبطلين ، كاشفا لظلمات تهويلات الملحدين ، كالمعتزلة ، وغيرهم من طوائف الإلهيين ، على وجه لا يخرجه زيادة التطويل إلى الملل ، ولا فرط الاختصار إلى النقص والخلل تسهيلا على طالبيه ، وتيسيرا