معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في مطلب هداية المنافقين في الحضر والبادية وذلك بتأنيبهم وتوبيخهم وذكر معايبهم إرادة إصلاحهم فقال تعالى لرسوله (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) وهم غفار ومزينة وجهينة وأشجع (١) وكانوا أهل بادية وأعرابا حول المدينة استنفرهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليخرجوا معه إلى مكة للعمرة تحسبا لما قد تقدم عليه قريش من قتاله صلىاللهعليهوسلم إلّا أن هؤلاء المخلفين من الأعراب أصابهم خوف وجبن من ملاقاة قريش وزين لهم الشيطان فكرة أن الرسول والمؤمنين لن يعودوا إلى المدينة فإن قريشا ستقضي عليهم وتنهي وجودهم فلذلك خلفهم الله وحرمهم صحبة نبيّه والمؤمنين فحرموا من مكرمة بيعة الرضوان وأخبر رسوله عنهم وهو عائد من الحديبية بما يلي (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) معتذرين لك عن تخلفهم (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا) فتخلفنا لأجل إصلاحها ، (وَأَهْلُونا) كذلك (فَاسْتَغْفِرْ لَنا) أي اطلب لنا من الله المغفرة. ولم يكن هذا منهم حقا وصدقا بل كان باطلا وكذبا فقال تعالى فاضحا لهم (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) فهم إذا كاذبون. وهنا أمر رسوله أن يقول لهم أخبروني إن أنتم عصيتم الله ورسوله وتركتم الخروج مع المؤمنين جبنا وخوفا من القتل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أي شرا لكم أو أراد بكم نفعا أي خيرا لكم؟ والجواب قطعا لا أحد إذا فإنكم كنتم مخطئين في تخلفكم وظنكم معا ، وقوله (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) اضرب تعالى عن كذبهم واعتذارهم ليهددهم على ذلك بقوله (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) وسيجزيكم به وما كان عملهم إلا الباطل والسوء ، ثم أضرب عن هذا أيضا إلى آخر فقال (بَلْ ظَنَنْتُمْ) (٢) (أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) إذ تقتلهم قريش فتستأصلهم بالكلية. (وَزُيِّنَ ذلِكَ) الشيطان (فِي قُلُوبِكُمْ) فرأيتموه واقعا ، (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) وهو أن الرسول والمؤمنين لن ينجوا من قتال قريش لهم ، (وَكُنْتُمْ) أي بذلك الظن (قَوْماً بُوراً) لا خير فيكم هلكى لا وجود لكم. وقوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) وهو إخبار أريد به تخويفهم لعلهم يرجعون من باطلهم في اعتقادهم وأعمالهم إلى الحق قولا وعملا ، ومعنى أعتدنا أي هيأنا وأحضرنا وسعيرا بمعنى نار مستعرة شديدة الالتهاب وقوله في الآية الأخيرة من هذا السياق (١٤) (وَلِلَّهِ مُلْكُ (٣)
__________________
(١) والديل كذلك ، وخرج من أسلم مائة رجل من بينهم مرداس بن مالك الأسلمي والد عباس الشاعر ، وعبد الله بن أبي أوفي وزاهر بن الأسود ، وأهبان بن أوس وسلمة بن الأكوع الأسلمي ، ومن غفار : خفاف بن أيماء ومن مزينة : عائذ بن عمرو ، وتخلف عن الخروج أكثرهم.
(٢) هذه الجملة بدل اشتمال من جملة : (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) و (إن) مخففة من الثقيلة ، واسمها : ضمير الشأن و (لن) لإفادة استمرار النفي ، وأكد أيضا ب (أبدا) لأن ظنهم كان قويا.
(٣) هذا الكلام معطوف على قوله تعالى : (فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) وهو انتقال من التخويف الشديد إلى الإطماع في المغفرة والرحمة ليكون سببا في هدايتهم ، وتقديم الرحمة على العذاب مشعر بذلك.