كَذَّبَ وَتَوَلَّى)؟ ولم يقولا له لا سلام عليك ، ولا أنت مكذب ومعذب ، وهنا قال لهما فرعون ما أخبر به تعالى في قوله : (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟) أفرد اللعين موسى بالذكر لإدلائه عليه بنعمة التربية في بيته ولأنه الرسول الأول فأجابه موسى بما أخبر تعالى به بقوله : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى (١) كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٢) أي كل مخلوق خلقه الذي هو عليه متميز به من شكل ولون وصفة وذات ثم هدى الأحياء من مخلوقاته إلى طلب رزقها من طعام وشراب ، وطلب بقائها بما سن لها وهداها إليه من طرق التناسل إبقاء لأنواعها. وهنا وقد أفحم موسى فرعون وقطع حجته بما ألهمه الله من علم وبيان قال فرعون صارفا موسى عن المقصود خشية الفضيحة من الهزيمة أمام ملائه قال : (فَما (٣) بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) أخبرنا عن قوم نوح وهود وصالح وقد كانوا يعبدون الأوثان.
وعرف موسى أن اللعين يريد صرفه عن الحقيقة فقال له ما أخبر تعالى به في قوله : (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ) (٤) (، لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) (٥) فإن ما سألت عنه لا يعنينا فعلم حال تلك الأمم الخالية عند ربي في لوح محفوظ عنده وسيجزيها بعملها ، وما عجل لها من العقوبة أو أخر إنما لحكمة يعلمها فإن ربي لا يخطىء ولا ينسى وسيجزى كلا بكسبه. ثم أخذ موسى يصف ربه ويعرفهم به وهي فرصة سنحت فقال (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) أي فراشا مبسوطة للحياة عليها (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أي سهل لكم للسير عليا طرقا تمكنكم من الوصول إلى حاجاتكم فوقها ، (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) وهو المطر المكون للأنهار والمغذي الممد للآبار. هذا هو ربي وربكم فاعرفوه واعبدوه ولا تعبدوا معه سواه. وقوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا (٦) بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) أي بالمطر ازواجا أي أصنافا من نبات شتى أي مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخصائص. كان هذا من قول الله
__________________
(١) أعلمه عليهالسلام بأنّ ربه تعالى يعرف بصفاته لا بذاته ولا باسم يعرف به ولم يقل له موسى : إنه الله ، لأنّ الاسم العلم لا يهدي إلى معرفته تعالى كما تهدي إليه الصفات العلى التي لا يقدر فرعون على جحدها وإنكارها.
(٢) قال ابن عباس : أعطى كل زوج من جنسه ثمّ هداه إلى منكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه. وقال مجاهد : اعطى كل شيء صورته ولم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم ، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان. قال الشاعر :
وله في كل شيء خلقه |
|
وكذا الله ما شاء فعل |
(٣) البال : الحال أي : ما حالها وما شأنها؟ فأعلمه موسى عليهالسلام أنّ علمها عند الله أي : إن ما سألت عنه من علم الغيب الذي استأثر الله به دون سواه.
(٤) في هذه الآية دليل على مشروعية كتابة العلوم وتدوينها ، حتى لا تنسى فتضيع وفي الحديث شاهد آخر ففي صحيح مسلم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم (لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده. إن رحمتي تغلب غضبي).
(٥) الضلال : الخطأ في العلم شبّه بخطإ الطريق ، والنسيان : عدم تذكر الأمر المعلوم في الذهن.
(٦) في الكلام التفات من ضمير الغيبة إلى ضمير التكلم والخطاب تنويعا للأسلوب وتحريكا للضمير الجامد.