فإذا ثبت مضمون
الفصلين خضنا بعدهما في الحجاج. ونحن الآن نقيم على الخصوم ثلاثة أدلة ، يفضي كل
واحد منها إلى القطع ، والله المستعان.
فالطريقة
الأولى ، أن نقول : قد
سلمتم لنا أن كون العالم عالما حكم ثابت للذات ، كما أن كون المريد مريدا حكم ثابت
للذات ، ثم منعتم كون الباري تعالى مريدا لنفسه ؛ وكل ما صدّكم عن ذلك في كونه
مريدا فهو متقرر في كونه عالما ، ويتضح الجمع بالسبر والتقسيم.
فنقول : امتناع
كون الباري سبحانه وتعالى مريدا لنفسه لا يخلو ؛ إما أن يستند إلى وجوب تعليل هذا
الحكم غائبا ، كما ثبت تعليله شاهدا ؛ فإن كان الأمر كذلك ، فيجيء من مضمونه تعليل
كونه تعالى عالما طردا للعلة المقررة شاهدا ، وإن كان ما ذكرناه في حكم الإرادة
يستند إلى ما هذوا به ، من أنه لو كان مريدا لنفسه لكان مريدا لكل المرادات ، وقد
أوضحنا إبطال ذلك عليهم عند كلامنا في حكم الإرادة.
فإذا بطل معلولهم
في منع كون الباري تعالى مريدا لنفسه ، فلا يبقى بعده إلا ما ذكرناه. وليس يجري
كون المريد مريدا مجرى كون الفاعل فاعلا ، فإن للمريد بكونه مريدا حكما وحالا على
التحقيق ، وليس للفاعل بكونه فاعلا حال ؛ فهذه طريقة قاطعة فيما نلتمسه.
والطريقة
الثانية أن نقول : قد ثبت
أن كون العالم عالما شاهدا معلل بالعلم ، والعلة العقلية مع معلولها يتلازمان ،
ولا يجوز تقدير واحد منهما دون الثاني ؛ فلو جاز تقدير كون العالم عالما دون العلم
، لجاز تقدير العلم من غير أن يتصف محله بكونه عالما ، ولا معنى لإيجاب العلم حكمه
، إلا أنه يلازمه ، فإنه لا يثبته إثبات القدرة مقدورها ؛ فلو جاز ثبوت الحكم دون
العلة لوجوبه ، لجاز وجود العلة دون حكمها لوجوبها.
والعبارات
المتداولة بين الأصوليين ، أن تسمية العالم عالما تقتضي علة موجبة ، موضوعة
للتفاهم والميز بين ذات وذات ، فإذا ثبت ذلك شاهدا وجب القضاء به غائبا.
وإن قالوا : كون
العالم عالما شاهدا إنما يعلل لجوازه ، فقد قدمنا ما يبطل ذلك في النفي والإثبات.
فإن قالوا : كون
العالم عالما غائبا على خلاف كون العالم عالما شاهدا ، وإذا ثبت حكم معلل بعلة ،
فإنما يلزم تعليل مثل ذلك الحكم بالعلة طردا ، قلنا : الوجه الذي يقتضي العلم
شاهدا حكما ، يقتضيه غائبا. وإذا اختلف العلمان فلا يثبت حكم الاختلاف لحكميهما من
الوجه الذي يقتضي العلة معلولها لأجله ؛ فإن العلم شاهدا يخالف العلم القديم عندنا
، بكونه حادثا عرضا مختصا بمتعلق واحد إلى غير ذلك. والعلم بهذه الوجوه لا يوجب
كون العالم عالما ، وإنما يوجبه من حيث يكون علما ، وذلك ثابت شاهدا وغائبا. ثم ما
ألزمونا في تباين الحكمين في حكم العلة ، يلزمهم في تباينهما في حكم الشرط.