فإن قيل : من أركان دليلكم استحالة اتصاف الباري تعالى بالآفات المضادة للسمع والبصر ، فما الدليل على ذلك؟ قلنا : هذا مما كثر فيه كلام المتكلمين ، ولا نرتضي مما ذكروه في هذا المدخل إلا الالتجاء إلى السمع ، إذ قد أجمعت الأئمة وكل من آمن بالله تعالى على تقدس الباري تعالى عن الآفات والنقائص.
فإن قيل : الإجماع لا يدل عقلا ، وإنما دل السمع على كونه دليلا ؛ والسمع وإن تشعبت طرقه فمآله كلام الله تعالى ، وهو الصدق وقوله الحق ؛ والأفعال لا تدل على ثبوت الكلام ، بل سبيل إثباته كسبيل إثبات السمع والبصر ، كما سنذكره. فلو وقعت الطّلبة في الكلام نفسه ، وأسندنا إثباته إلى نفي الآفة ، ثم رجعنا في نفي الآفة إلى الإجماع الذي لا يثبت إلا بالكلام ، لكنا محاولين إثبات الكلام بما لا يثبت إلا بعد تقدم العلم بالكلام عليه ، وذلك نهاية العجز ؛ قلنا : هذا السؤال عظيم الوقع ، يتعين الاعتناء بالانفصال عنه ، ويتجه عندنا في درء السؤال أن نقول : المعجزات إذا دلت على صدق الرسل عليهمالسلام ، وأخبروا بعد ثبوت صدقهم عن الكلام الثابت لله تعالى على الجملة ، ثم أخبروا عن تفاصيل متعلقاته ، فيعلم على القطع ما نرومه.
فإن قيل : المعجزات لا تدل على صدق الأنبياء لأعيانها دلالة الأدلة العقلية ، وإنما تدل من حيث تنزّل منزلة التصديق بالقول على ما سنذكره في باب المعجزات ؛ فإذا كان المعجز يدل من هذا الوجه لأنه يحل محل قول مصدق ، فكيف تدل المعجزة على قول ، ووجه دليله نزوله منزلة قول؟ قلنا : هذا مخيل ملبس ، ولكن الحق يتبين عند التحصيل ؛ فإن من ادعى في محفل أنه رسول ملك ، وقام على رءوس الأشهاد وادعى أنه رسول الملك على من شهد وغاب ، وذلك بمرأى من الملك ومسمع ، ثم قال : آية رسالتي أني إذا اقترحت على الملك أن يقوم ويقعد فعل على خلاف المعتاد منه ، ثم عقب على ما قال بالاقتراح ، فوافقه الملك ؛ فيضطر أهل المجلس إلى العلم بكونه رسولا مصدقا من المرسل. وقد لا يخطر لبعضهم كون المرسل متكلما ، وقد يحضر المجلس من ينفي كلام النفس ويعتقد ألا كلام إلا العبارات ، ثم يستوي الحاضرون في درك العلم بكونه رسولا ، مع اختلافهم في الذهول عن كلامه إذ ذاك والعلم به ؛ فاعلم ذلك ترشد.
وهذا الفصل لا يليق بمقدار هذا المعتقد ، ولكنا ألفينا فصلا تقدر لدى الإملاء ، فضمناه هذا المعتقد ، وبالله التوفيق.
وسبيل إثبات العلم بكون الباري تعالى متكلما ، كسبيل إثبات العلم بكونه سميعا بصيرا ، ولكن المقصد منه لا يتضح قبل أن نثبت كلام النفس ونرد على منكريه.
فصل
فإن قيل : قد وصفتم الباري تعالى بكونه سمعيا بصيرا ، والسمع والبصر إدراكان ، ثم تثبت شاهدا إدراكات سواهما : إدراك يتعلق بقبيل الطعوم ، وإدراك يتعلق بقبيل الروائح ، وإدراك يتعلق