وزعموا أن كل حادث من أفعاله مراد له بإرادة حادثة ، وكل مأمور به من أفعال العباد مراد له ، ولا تتعلق إرادة واحدة بمرادين عندهم ، ثم الإرادات تقع حادثة غير مرادة.
وأما وجه الرد على الكعبي ومتبعيه ، فهو أن نقول : قد سلمتم لنا أن اختصاص أفعال العباد بالوقوع في بعض الأوقات على خصائص من الصفات ، يقتضي القصد إلى تخصيصها بأوقاتها وخصائص صفاتها ، كما أن الاتساق والانتظام والإتقان والإحكام تدل على كون المتقن عالما ، فكذلك الاختصاص يدل على كونه قاصدا إلى التخصيص ، والأدلة العقلية المفضية إلى القطع يلزم اطرادها. ولو تخيل العاقل ثبوت الدلالة غير دالة ، لكان ذلك موجبا لخروجها عن قضية الأدلة على العموم.
فنقول للكعبي ، بعد تقرير ذلك : كل وجه يدل العقل شاهدا من أجله على كونه مرادا مقصودا ، فهو مقرر في فعل الله تعالى بتلازم دلالة فعله على ما دل عليه الفعل شاهدا. ولو ساغ التعرض لنقض الدلالة وعدم طردها ، لساغ أن يدل الإحكام شاهدا على كون المحكم عالما ، من غير أن يدل الإحكام في فعل الله تعالى على كونه عالما.
فإن قيل : إنما يدل الفعل شاهدا على القصد من حيث لا يحيط الفاعل بالمغيب عنه ، فإذا لم يتصف بكونه عالما بوقت وقوع الفعل وما يختص به لم يكن بدّ من تخصيص قصد ؛ والباري تعالى عالم بالغيوب على حقائقها ، فوقع الاجتزاء بكونه عالما عن تقدير كونه مريدا.
وهذا باطل من أوجه ؛ أقربها أن ما ذكروه يجر عليهم أن يحكموا بأن الباري تعالى غير قادر اكتفاء بكونه عالما ، وفرق في ذلك بين الشاهد والغائب. ثم نفرض عليهم فاعلا شاهدا مطلعا على ما سيكون من فعله ، بإنباء صادق أتاه ، أو إعلام الله إياه. ولو كان الأمر كذلك لافتقر الفعل مع ذلك إلى القصد إليه ، فبطل التعويل على صرف وجه الدليل إلى ذهول الفاعل عما لم يقع من فعله.
ثم الناظر في الأفعال المقدورة للعباد يستدل على قصدهم بأفعالهم ، وإن لم يخطر له ذهولهم وانطواء الغيوب عنهم ؛ فلو كان الفعل يدل على القصد شاهدا من حيث لم يعلم الفاعل مآل الأفعال ، لتوقف الاستدلال للناظر على أن يخطر ذلك بالبال ، فإن انخرام ركن من الاستدلال يمنع العثور على العلم في ثاني الحال.
وإن تعسّف من متبعي الكعبي متعسّف ، وزعم أن الفعل شاهدا غير دال على قصد الفاعل إليه ، وإن ثبت القصد فهو غير مدلول بالفعل ؛ فيقال له : هذا جحد للضرورة ، وتعرض لالتزام جهالات. وأقرب ما يعارض هذا القائل ، أن يقال له : لا يدل المحكم على علم المحكم ، وإن ثبت العلم فبدلالة أخرى.
وهذه الطريقة لا تستمر على أصول المعتزلة من البصريين على الكعبي ، فإنهم قد نقضوا الدلالة في قواعد من العقائد.