فالمقصود من عقد هذا الباب إيضاح الدليل على أن الإله واحد ويستحيل تقدير إلهين. والدليل عليه ، أنّا لو قدرنا إلهين ، وفرضنا الكلام في جسم وقدرنا من أحدهما إرادة تحريكه ومن الثاني إرادة تسكينه ، فتتصدى لنا وجوه كلها مستحيلة. وذلك أنّا لو فرضنا نفوذ إرادتيهما ووقع مراديهما ، لأفضى ذلك إلى اجتماع الحركة والسكون في المحل الواحد ، والدلالة منصوبة على اتحاد الوقت والمحل. ويستحيل أيضا أن لا تنفذ إرادتيهما ، فإن ذلك يؤدي إلى خلو المحل القابل للحركة والسكون عنهما ، ثم مآله إثبات إلهين عاجزين قاصرين عن تنفيذ المراد. ويستحيل أيضا الحكم بنفوذ إرادة أحدهما دون الثاني ، إذ في ذلك تعجيز من لم تنفذ إرادته ، وسندل على استحالة ثبوت قديم عاجز.
فإن قيل : رتبتم هذه الدلالة على اختلاف إرادتي القديمين ، فبم تنكرون على من يعتقد قديمين يريد كل واحد منهما ما يريده الآخر؟ قلنا هذه الدلالة تطرد على تقدير الاختلاف كما قررناه ، وهي مطردة أيضا على تقدير الاتفاق ؛ فإن إرادة تحريك الجسم من أحدهما مع إرادة الثاني تسكينه ممكنة غير مستحيلة ، وكل ما دل وقوعه على العجز والاتصاف ببعض القصور دل جوازه على مثله. والدليل عليه أن من اعتقد جواز قيام الحوادث بالقديم ، ملتزما ما يفضي إلى الحكم بحدثه ، نازل منزلة من يعتقد قيام الحوادث به وقوعا وتحققا. والجاري من أحد المحدثين في تنفيذ إرادته المتصدي لأن يمنع عرضة للنقص ، كالمصدود عما يريده حقا بتسوية بين من يجوز ضده وبين من اتفق رده.
فإن قيل : بم تنكرون على من يزعم أن اختلاف القديمين في الإرادة غير جائز ولا واقع؟ قلنا : لو قدرنا انفراد أحدهما لما امتنع في قضية العقل إرادته تحريك الجسم في الوقت المفروض ، ولو قدرنا انفراد الثاني لم تمتنع إرادته تسكينه. ولا توجب ذات لا اختصاص لها بأخرى تغيير أحكام صفاتهما ؛ فليجز من كل واحد منهما عند تقدير الاجتماع ، ما يجوز عند تقدير الانفراد.
وقال بعض الحذاق : غايتنا في دلالة التمانع ، امتناع وقوع مرادين ؛ وإثبات قديمين على قضية هذا السؤال يفضي إلى منع ، ما يجوز لكل قديم لو قدرنا انفراده ، وذلك أحق بالدلالة على التعجيز والتنقيص.
ولا تستمر هذه الدلالة على أصول المعتزلة ، مع مصيرهم إلى أنه يقع من العباد ما لا يريده الرب ، تعالى عن قولهم ، ولا يتضمن ذلك عندهم الحكم بقصوره. فإن قالوا : الرب تعالى قادر على إلجاء الخلق إلى ما يريده ، قيل : مراده عندكم أن يؤمن العباد على الاختيار إيمانا مثابا عليه ، ولا يريد منهم إيمانا وهم إليه ملجئون وعليه مكرهون ؛ فالذي يريده لا يقدر على إيقاعه ، والذي يقدر عليه لا يريده.
وقد أضرب شيوخ المعتزلة عن دلالة التمانع لما ذكرناه ، وهي المنصوصة في نص قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [سورة الأنبياء : ٢٢].