ثم الطاعات ثابتة على حقائقها ، صحيح أداؤها ، والإصرار على الكبيرة لو كان يدرأ ثواب الطاعات ، لكان ينافي صحتها ؛ كالردة ، ومفارقة السنة ، فإنها لما كانت محبطة كانت منافية لصحة العبادات. ثم الثواب يستحق على الطاعات عندهم لحسنها ووقوعها طاعات وذلك يتحقق مع الكبيرة الواحدة تحققه دونها.
فإن قالوا : مرتكب الكبيرة فاسق مخالف ، والجمع بين الثواب وبين سمة الفسوق متناقض ؛ فإن الثواب يؤذن بالولاية ، والفسوق ينافيها. قلنا : لا خلاف أنه موصوف بكونه مطيعا بطاعته موقنا موحدا وكل ما ذكرناه من سمات الأولياء. ثم إنما يتناقض اجتماع سمة المشاقّة والموافقة في الوقت الواحد ، ولا بعد في المخالفة في الشيء والموافقة في غيره. ثم إن لم يكن من الإحباط والإسقاط بدّ فهلّا أحبطتم العقاب وغلبتم الثواب كما قررناه!.
وربما استدل أصحاب الوعيد بظاهر من الكتاب ، ونحن نذكر أغمضها فنرشد إلى طريق الكلام عليه. فمما تمسكوا به قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) [سورة النساء : ٩٣] ، وهذا في ظنهم نص على الوعيد والخلود. وقد كثر كلام المفسرين في الآية ، وليس من غرضنا استيعاب جميع ما قيل ، ولكنا نذكر ما يقنع.
وقد قال ابن عباس في تأويل الآية : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً) مستحلا قتله ، والعمد على الحقيقة إنما يصدر من المستحل ؛ فأما من يعتقد أن القتل من أعظم الكبائر فيجرئه هواه ويزعه اعتقاده ، فلا يقدم على الأمر إلا خائفا وجلا. وآية ذلك أن الرب تعالى لما ذكر القصاص ووجوبه ، لم يقرنه بالوعيد والخلود ؛ وحيث ذكر الخلود لم يتعرض لوجوب القصاص ، وذلك أصدق دلالة على أن التوعد بالخلود للكافر المستحل ، الذي لا تجري عليه ظواهر الأحكام. فإن الحربي ، الذي لم يلتزم أحكامنا ، إذا قتل لم يقض عليه بوجوب القصاص.
ثم إن الخلود ، وإن كان ظاهرا في التأبيد ، فليس هو نصا فيه ، وقد يطلق ، والمراد به امتداد مدة وتطاول أمد ، وعلى هذا التأويل يحيّا الملوك بتخليد الملك. وأصحاب الوعيد قاطعون بمعتقدهم ، والظاهر المتعرض للاحتمال لا يفيد القطع.
ثم يعارض استدلالهم بالاحتجاج بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [سورة النساء : ٤٨] ، وهذا نص في موضع النزاع ، ولا سبيل لهم إلى حمل الآية على التوبة ، من وجهين : أحدهما أن قبول التوبة حتم عندهم ، فلا يفيد تعلق المغفرة بالمشيئة ؛ والثاني أنه تعالى فرق بين المشرك وبين ما دونه ، والتوبة عند الشرك تحبطه وتجبّه ، كما أن التوبة عن المعاصي تسقط أوزارها. ويتسع مجال الكلام على الظواهر ، وهذا القدر كاف.