انتقل الانتقال ، وذلك يفضي إلى ما لا يتناهى ، فقد ثبت بمجموع ما ذكرناه حدث الأعراض والأصول المرتبطة به.
وأما الأصل الثالث ، فهو تبيين استحالة تعري الجواهر عن الأعراض ، فالذي صار إليه أهل الحق : أن الجوهر لا يخلو عن كل جنس من الأعراض وعن جميع أضداده ، إن كانت له أضداد ، وإن كان له ضد واحد ، لم يخل الجوهر عن أحد الضدين ، فإن قدّر عرض لا ضدّ له ، لم يخل الجوهر عن قبول واحد من جنسه.
وجوزت الملحدة خلو الجواهر عن جميع الأعراض. والجواهر في اصطلاحهم تسمى الهيولى والأعراض تسمى الصورة. وجوز الصالحي (١) الخلو عن جملة الأعراض ابتداء. ومنع البصريون من المعتزلة العروّ عن الأكوان ، وجوزوا الخلو عن ما عداها ، وقال الكعبي (٢) ومتبعوه :
يجوز الخلو عن الأكوان ويمتنع العروّ عن الألوان. وكل مخالف لنا يوافقنا على امتناع العروّ عن الأعراض ، بعد قبول الجواهر لها. فيفرض الكلام مع الملحدة في الأكوان ، فإن القول فيها يستند إلى الضرورة ، فإننا ببديهة العقل نعلم أن الجواهر القابلة للاجتماع والافتراق لا تعقل غير متماسة ولا متباينة.
ومما يوضح ذلك ، أنها إذا اجتمعت فيما لم يزل فلا يتقرر في العقل اجتماعها إلا عن افتراق سابق ، إذا قدر لها الوجود قبل الاجتماع ؛ وكذلك إذا طرأ الافتراق عليها ، اضطررنا إلى العلم بأن الافتراق مسبوق باجتماع.
وغرضنا في روم إثبات حدث العالم يتضح بثبوت الأكوان. فإن حاولنا ردا على المعتزلة فيما خالفونا فيه تمسكنا بنكتتين : إحداهما الاستشهاد بالإجماع على امتناع العروّ عن الأعراض بعد الاتصاف بها.
فنقول : كل عرض باق ، فإنه ينتفي عن محله بطريان ضد فيه. ثم الضد إنما يطرأ في حال عدم المنتفى به على زعمهم ، فإذا انتفى البياض فهلا جاز أن لا يحدث بعد انتفائه لون ، إن كان يجوز تقدير الخلو من الألوان ابتداء ، ونطرد هذه الطريقة في أجناس الأعراض.
ونقول أيضا : الدال على استحالة قيام الحوادث بذات الرّب سبحانه وتعالى ، أنه لو قامت به لم يخل عنها ، وذلك يفضي لحدثه ، فإذا جوز الخصم عروّ الجوهر عن الحوادث ، مع قبوله لها صحة وجوازا ، فلا يستقيم مع ذلك دليل على استحالة قبول الباري تعالى للحوادث.
والأصل الرابع ، يشتمل على إيضاح استحالة حوادث لا أول لها. والاعتناء بهذا الركن حتم ، فإن إثبات الغرض منه يزعزع جملة مذاهب الملحدة. فأصل معظمهم أن العالم لم يزل على ما هو
__________________
(١) هو صالح بن مسرّح التميمي ، كان خارجيا ومن مشاهير المعتزلة ، قتل عام ٧٦ ه. انظر الفرق بين الفرق.
(٢) هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي الكعبي ، شيخ من شيوخ المعتزلة ، كان رأسا لطائفة منهم سموها «الكعبية» نسبة إليه. توفي عام ٣١٩ ه. انظر شذرات الذهب ٢ / ٢٨١.