ثم يجر مقاد ذلك إلى ظهور ما كان معجزة لنبي على يد ولي ، وذلك يفضي إلى تكذيب النبي المتحدي بآيته ، القائل لمن تحداه : لا يأتي أحد بمثل ما أتيت به. فلو جاز إتيان الولي بمثله ، لتضمن ذلك نسبة الأنبياء إلى الافتراء.
وهذا تمويه لا تحصيل له ، إذ لا خلاف في أن الشيء الواحد من خوارق العوائد يجوز أن يكون معجزة لنبي بعد نبي ، ثم لا يكون ظهوره ثانيا مكذّبا لمن تحدى به أولا. فإن قالوا : النبي يقيّد دعواه في خطاب من تحداه ، ويقول : لا يأتي أحد بمثل ذلك إلا من يدعي النبوة صادقا في دعواه. قلنا إن ساغ تقييد الدعوى بما ذكرتموه ، فلا يمتنع أيضا أن يقول النبي لا يأتي بمثل ذلك متنبي ولا ممخرق مفتر ، ولا من يروم تكذيبي ؛ وتخرج الكرامات عن هذه الجهات وليس تقييد أولى من تقييد.
ومما احتجوا به ، أن قالوا : لو جوزنا انخراق العوائد للأولياء ، لم نأمن في وقتنا وقوعه ، وذلك يؤدي إلى أن يتشكك اللبيب في جريان دجلة دما عبيطا ، وانقلاب الأطواد ذهبا إبريزا ، وحدوث بشر من غير إعلاق وولادة ، وتجويز ذلك سفسطة وتشكك في الضروريات.
قلنا : هذا الذي ذكرتموه ينعكس عليكم في زمان الأنبياء ؛ فإن الذين كانوا في مدة الفترة ، وهي ما بين العروج بعيسى عليهالسلام إلى ابتعاث محمد صلىاللهعليهوسلم ، كان لا يسوغ منهم تجويز ما منعتم تجويزه في محاولة دفع الكرامات. ولما ابتعث النبي ، وظهرت الآيات ، وانخرقت العادات ، استلّ عن صدور العقلاء الأمن من وقوع خوارق العوائد.
وهذا سبيلنا في الذي دفعنا إليه ، فنحن الآن على أمن من أن ما قدروه لا يقع. فإن قدر الله وقوعه قلب العادة ، وأزال العلوم الضرورية بأن ما قدروه لا يقع. فقد بطل ما قالوه ، واستبان بانفصالنا عنه أصل في الكرامة.
فإن قيل : ما دليلكم على تجويزها؟ قلنا : ما من أمر يخرق العوائد إلا وهو مقدور للرب تعالى ابتداء ، ولا يمتنع وقوع شيء لتقبيح عقل لما مهدناه فيما سبق. وليس في وقوع الكرامة ما يقدح في المعجزة ؛ فإن المعجزة لا تدل لعينها ، وإنما تدل لتعلقها بدعوى النبي الرسالة ونزولها منزلة التصديقي بالقول. والملك الذي يصدق مدعي الرسالة بما يوافقه وبما يطابق دعواه ، لا يمتنع أن يصدر منه مثله إكراما لبعض أوليائه. ولا يقدح مرام الإكرام في قصد التصديق ، إذا أراد التصديق ، ولا خفاء بذلك على من تأمل.
فإن قيل : فما الفرق بين الكرامة والمعجزة؟ قلنا : لا يفترقان في جواز العقل ، إلا بوقوع المعجزة على حسب دعوى النبوءة.
واستدل مثبتو الكرامات بما لا سبيل إلى درئه في مواقع السمع. فإن أصحاب الكهف وما جرى لهم من الآيات لا سبيل إلى جحده ، وما كانوا أنبياء إجماعا. وكذلك خصت مريم عليهاالسلام