ومنها قوله تعالى في سورة الجنّ : (فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) (١) ، فإن قوة هذا الكلام تقتضي أنهم انقادوا له وآمنوا بعد شركهم ، وذلك يقتضي أنّهم فهموا أنّهم مكلّفون به ، وكذلك كثير من الآيات التي في هذه السّورة التي خاطبوا بها قومهم.
ومنها قولهم فيها : (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ) (٢) ، وكذا قولهم : (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) (٣) الآيات.
ومنها قوله تعالى : (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (٤).
فهذه الآية تقتضي أن النبي صلىاللهعليهوسلم منذر بالقرآن كله من بلغه القرآن جنيّا كان أو إنسيّا ، وهي في الدّلالة كآية الفرقان أو أصرح ، فإن احتمال عود الضّمير على الفرقان غير وارد هنا ، فهذه مواضع في الفرقان تدل على ذلك دلالة قوية ، أقواها آية الأنعام هذه ، وتليها آية الفرقان ، وتليها آيات الأحقاف ، وتليها آيات الرحمن ، وخطابها في عدّة آيات : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ، وتليها سورة الجنّ ، فقد جاء ترتيبها في الدلالة والقوة كترتيبها في المصحف ، وفي القرآن أيضا ما يدلّ لذلك ، ولكن دلالة الإطلاق اعتمدها كثير من العلماء في مباحث ، وهو اعتماد جيد وهو هنا أجود ، لأن الأمر بالإنذار ، والمطلق إذا لم يتقيّد بقيد يدل على تمكن المأمور في الإتيان به في أي فرد شاء من أفراده وفي كلها ، وهو صلىاللهعليهوسلم كامل الشفقة على خلق الله ، والنصيحة لهم والدعاء إلى الله تعالى ، فمع تمكنه من ذلك لا يتركه في شخص من الأشخاص ، ولا في زمن من الأزمان ، ولا في مكان من الأمكنة ، وهكذا كانت حالته ـ صلىاللهعليهوسلم ، ويعلم أيضا من الشريعة أن الله تعالى لم يرده قوله : (قُمْ فَأَنْذِرْ) (٥) مطلق الإنذار حتى يكتفي بإنذار واحد لشخص واحد ، بل أراد التّشمير والاجتهاد في ذلك ، فهذه القرائن تفيد الأمر بالإنذار لكل من يفيد فيه الإنذار ، والجن بهذه الصّفة ، لأنه كان فيهم سفهاء وقاسطون وهم مكلفون فإذا أنذروا رجعوا عن ضلالهم فلا يترك النبي صلىاللهعليهوسلم دعاءهم ، والآية بالقرائن المذكورة مفيدة للأمر بذلك فثبتت البعثة إليهم بذلك ، ومنها كل آية فيها لفظ المؤمنين ولفظ الكافرين مما فيه أمر أو نهي ونحو ذلك فإنّ المؤمنين والكافرين صفتان لمحذوف ، والموصوف المحذوف يتعيّن أن يكون النّاس بل المكلّفون أعمّ من أن يكونوا إنسا أو جنّا ، وإذا ثبت ذلك أمكن الاستدلال بما لا يعدّ ولا يحصى من الآيات كقوله تعالى :
__________________
(١) الجن : ٢.
(٢) الجن : ١٣.
(٣) الجن : ١٤.
(٤) الأنعام : ١٩.
(٥) المدثر : ٢.