قال أبو جعفر : وهذه الآية من أشكل ما في السورة وتحصيل معناها فيما قيل والله أعلم : أم عندهم اللوح المحفوظ الذي فيه الغيوب كلها فهم يكتبون منه ما يجادلونك به ويدّعون أنهم مع كفرهم بالله جلّ وعزّ وردّهم عليك بعد البراهين خير منك وأنهم على الحقّ.
(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) (٤٨)
(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي اصبر على أداء الرسالة واحتمل أذاهم ولا تستعجل لهم العذاب (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) في ما عمله من خروجه عن قومه وغمّه بتأخر العذاب عنهم (إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس (وَهُوَ مَكْظُومٌ) قال : مغموم. قال أبو جعفر : والمكظوم في كلام العرب الذي قد اغتمّ لا يجد من يتفرّج إليه فقد كظم غيظه أي أخفاه.
(لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) (٤٩)
(لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) وفي قراءة ابن مسعود «لو لا أن تداركته» (١) على تأنيث النعمة والتذكير : لأنه تأنيث غير حقيقي وروي عن الأعرج «لو لا أن تدّاركه» بتشديد الدال ، والأصل تتداركه أدغمت التاء في الدال. (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) في موضع نصب على الحال.
(فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٥٠)
قيل : المعنى فوصفه جلّ وعزّ أنه من الصالحين. وقد حكى سيبويه جعل بمعنى وصف ، وقيل : (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) وفّقه الله تعالى لطاعته حتى صلح.
(وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) (٥١)
الكوفيون يقولون : (إِنْ) بمعنى «ما» واللام بمعنى إلّا ، والبصريون يقولون : هي إن المشدّدة لما خفّفت وقع بعدها الفعل ولزمته لام التوكيد ليفرق بين النّفي والإيجاب. وذكر بعض النحويين الكوفيين أن هذا من إصابة العين ، واستجهله بعض العلماء وقال : إنما كانوا يقولون : إنّا نصيب بالعين ما نستحسنه ونتعجّب من جودته. وهذا ليس من ذاك إنّما كانوا ينظرون إلى النبي صلىاللهعليهوسلم نظر الإبغاض والنفور. فالمعنى على هذا أنهم لحدّة نظرهم إليه يكادون يزيلونه من مكانه. يقال: أزلق
__________________
(١) انظر البحر المحيط ٨ / ٣١١ (قرأ الجمهور «تداركه» ماضيا ولم تلحقه علامة التأنيث ، وقرأ عبد الله وابن عباس «تداركته» بتاء التأنيث ، وابن هرمز والحسن والأعمش بشدّ الدال).