وقال مجاهد : الغسّاق لا يستطيعون أن يذوقوه من برده. والثاني : أنه ما يجري من صديد أهل النّار ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس ، وبه قال عطيّة ، وقتادة ، وابن زيد. والثالث : أنّ الغسّاق : عين في جهنّم تسيل إليها حمة كل ذات حمة من حيّة أو عقرب أو غيرها ، فيستنقع ، فيؤتى بالآدميّ فيغمس فيها غمسة ، فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام ، ويجرّ لحمه جرّ الرّجل ثوبه ، قاله كعب. والرابع : أنه ما يسيل من دموعهم ، قاله السّدّيّ. قال أبو عبيدة : الغسّاق : ما سال ، يقال : غسقت العين والجرح. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللّغوي عن ابن قتيبة قال : لم يكن أبو عبيدة يذهب إلى أنّ في القرآن شيئا من غير لغة العرب ، وكان يقول : هو اتّفاق يقع بين اللّغتين ، وكان غيره يزعم أنّ الغسّاق : البارد المنتن بلسان التّرك. وقيل : فعّال ، من غسق يغسق ؛ فعلى هذا يكون عربيّا ، وقيل في معناه : إنه الشديد البرد ، يحرق من برده. وقيل : هو ما يسيل من جلود أهل النّار من الصّديد.
قوله تعالى : (وَآخَرُ) قرأ أبو عمرو والمفضّل : «وأخر» بضمّ الهمزة من غير مدّ ، فجمعا لأجل نعته بالأزواج ، وهي جمع. وقرأ الباقون بفتح الألف ومدّه على التوحيد ، واحتجّوا بأنّ العرب تنعت الاسم إذا كان فعلا بالقليل والكثير ؛ قال الفرّاء : تقول : عذاب فلان ضروب شتّى ، وضربان مختلفان ؛ وإن شئت جعلت الأزواج نعتا للحميم والغسّاق والآخر ، فهنّ ثلاثة ، والأشبه أن تجعله صفة لواحد. وقال الزّجّاج : من قرأ «وآخر» بالمدّ فالمعنى : وعذاب آخر (مِنْ شَكْلِهِ) أي : مثل الأوّل. ومن قرأ : «وأخر» فالمعنى : وأنواع أخر ، لأنّ قوله : (أَزْواجٌ) بمعنى أنواع. وقال ابن قتيبة : «من شكله» أي من نحوه ، «أزواج» أي أصناف. وقال ابن جرير : «من شكله» أي : من نحو الحميم : قال ابن مسعود في قوله : «وآخر من شكله» : هو الزّمهرير. وقال الحسن : لمّا ذكر الله تعالى العذاب الذي يكون في الدنيا قال : «وآخر من شكله» أي وآخر لم ير في الدنيا.
قوله تعالى : (هذا فَوْجٌ) هذا قول الزّبانية للقادة المتقدّمين في الكفر إذا جاءوهم بالأتباع. وقيل : بل هو قول الملائكة لأهل النّار كلّما جاءوهم بأمّة بعد أمّة. والفوج : الجماعة من الناس وجمعه : أفواج. والمقتحم : الدّاخل في الشيء رميا بنفسه. قال ابن السّائب : إنهم يضربون بالمقامع ، فيلقون أنفسهم في النار ويثبون فيها خوفا من تلك المقامع. فلمّا قالت الملائكة ذلك لأهل النار ، قالوا : (لا مَرْحَباً بِهِمْ) ، فاتّصل الكلام كأنه قول واحد ، وإنما الأول من قول الملائكة ، والثاني من قول أهل النار ؛ وقد بيّنّا مثل هذا في قوله : (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) (١). والرّحب والرّحب : السّعة. والمعنى : لا اتّسعت بهم مساكنهم. قال أبو عبيدة : تقول العرب للرجل : لا مرحبا بك أي : لا رحبت عليك الأرض. وقال ابن قتيبة : معنى قولهم : «مرحبا وأهلا» أي : أتيت رحبا أي : سعة ، وأهلا أي : أتيت أهلا لا غرباء فائنس ولا تستوحش ، وسهلا ، أي : أتيت سهلا لا حزنا ، وهو في مذهب الدّعاء ، كما تقول : لقيت خيرا. قال الزّجّاج : و «مرحبا» منصوب بقوله : رحبت بلادك مرحبا ، وصادفت مرحبا ، فأدخلت «لا» على ذلك المعنى.
قوله تعالى : (إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) أي : داخلوها كما دخلناها ومقاسون حرّها. فأجابهم القوم ،
__________________
صديدهم ، لأن ذلك هو الأغلب من معنى الغسوق ، وإن كان للآخر وجه صحة.
(١) يوسف : ٥٢.