الإنسان الجاهل الّذي لا يعرف قدر نفسه ، أو الّذي يقول عن نفسه ما ليس له بحق في ما يعرفه من حدود نفسه ، ولست ـ يا ربّ ـ في هذا الموقع ، فإنّي عبدك ورسولك الّذي يعرف كيف يعيش العبوديّة لك ، وكيف يحس بالانسحاق أمام ألوهيتك ، في كل ما لك من الحقّ ، وفي ما عليّ من الحق. وماذا بعد ذلك؟ لماذا أقف يا ربّ موقف الدفاع عن نفسي؟ إنّه موقف الّذي يحتاج في إثبات براءته إلى بيّنة ، وليس موقفي هو هذا ، لأنّني أقف أمامك أنت الله الذّي (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) ، فأنت (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) ، وتحيط بكل شيء يفكر به الإنسان أو يقوله أو يعمله ، (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) ، لأنّ علمي مستمد من علمك ، فلا يحيط بشيء إلّا ما ألهمتني إياه ، فكيف لي الإحاطة بما في نفسك ، (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ف (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) ، وأنت تعلم أنّني لم أقل لهم شيئا من ذلك ، لأنّ ذلك هو الباطل الّذي لا يحق لي أن أفكر به ، فكيف يحقّ لي أن أقوله! (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) ، لأنّى عبد ورسولك الّذي أمرته بإبلاغ رسالتك لعبادك ليعبدوك وليوحدوك ، فلا يشركوا بك شيئا ، وقد قلت لهم (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) وشرحت لهم في جميع مراحل حياتي عند ما كنت معهم أنّني مثلهم عبد مربوب لك لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا بك ، وأنّني لم أفعل ما فعلته من خوارق الإعجاز إلّا بإذنك وبقدرتك ، من دون أن يكون لي فيها شيء ذاتيّ ينطلق من قدرة الذات على الإبداع ، وطلبت منهم أن يعبدوك ، لأنّ ذلك هو سرّ الاعتراف بالربوبيّة.
وقد يخطر بالبال سؤال ، هل هذه الكلمة هي كل رسالة عيسى؟ وكيف يمكن أن لا تكون هناك كلمة أخرى في الوقت الّذي كان الإنجيل يمثّل حجما كبيرا في مختلف جوانب الحياة من النصائح والمواعظ والتعاليم؟ والجواب عن ذلك : إنّ هذه الكلمة تختصر كل تطلعات الرسالة وامتداداتها ، لأنّ العبادة لله تتمثّل في تحرير النفس من الخضوع لكل شيء غير الله ، سواء كان شخصا ، أو جهة ، أو صنما ، وأن تخضع لله في كل شأن من شؤون حياتك ، فتطيعه في