الروحي المتدفق من روحيّة الوحي الإلهي ، منفعلين بالحقيقة الصافية المشرقة القائمة على التأمل والإلهام ، مرسلة نفوسهم دموع الخشوع فياضة ، وامضة بإشارات المحبة والسلام ، ويرتعد كيانهم ويقشعر لبرودة الإيمان وهيبة الموقف أمام عظمة الله تعالى ، وتكرع أرواحهم كأس الملاطفة من معين الذات الإيماني حتّى الثمالة. فإذا بهم أمام الحقّ الذي عرفوه ، يبكون من الفرح ، (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) تماما كما هو فرح الأطفال بالهدية الحلوة ، في براءة الطفولة ، فيبتلون إلى الله في صلاة خاشعة ، لأن الإيمان ليس مجرّد فكر يخضع للمعادلات العقليّة ، ولكنه فكر وروح وشعور عامر بحركة الحياة ، فإذا به يقظة إحساس ، ومنطلق روح ، وصفاء قلب ، وهزّة كيان ، (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) ، الذين يعيشون الحضور الدائم مع الله ، فيعيشون ـ من خلال ذلك ـ الحضور الواعي لمسؤوليّة الحياة مع الآخرين.
وهكذا يتحرك التساؤل في قوّة إرادة الإيمان ، (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ) الذين يفرض نفسه علينا في كل ما نفكر ونشعر ونعيش من قضايا الحياة وتفاصيلها ، وحركة النفس وتطلعاتها ، (وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِ) الذي يتمثل في وضوح الحقيقة في وجداننا وأعماقنا؟! وتلك هي قصة الإنسان الواعي ، إذا عاش وضوح الرؤية للأفكار والأشياء ، فإنه لا يملك إلا أن يلتصق بالمعرفة التصاق إيمان ، وينفعل بالحياة ، من خلالها ، انفعال الموقف والممارسة. أما الإنسان الذي يهرب من الحقيقة الّتي تواجهه ، ويختبئ وراء أقنعة متنوعة تحجب عنه إشراقتها ، فهو الإنسان المعقّد الذي لا يعيش الإيمان كمسؤوليّة ، بل يتحرك معه على أساس الرغبة والرهبة في نطاق أنانيّة الذات ، وهو غير هذا الإنسان الذي يقف وقفة الابتهال الخاشع أمام الله ليعبر عن رغباته الروحيّة بين يديه ، (وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) فها هي الأشواق الروحيّة تتطلع إلى العيش مع النفوس الصالحة المؤمنة التي جاهدت في سبيل الله عند ما كانت في الدنيا ، وجاءت لتعيش نتائج جهادها في جنة الله ، رضوانا ورحمة ومغفرة.