سوءة الغراب الآخر ، ولكن جاء في بعض كتب التفسير أنّ الغراب من بين الطير من عادته أنّه يدخر بعض ما اصطاد لنفسه بدفنه في الأرض ، وبعض ما يقتات بالحب ونحوه من الطير ، وربّما بحيث في الأرض للحصول على مثل الحبوب والديدان لا للدفن والادخار. والله العالم.
وفي مطلق الأحوال ، لقد عرف قابيل ـ من خلال تجربة الغراب ـ كيفيّة حفر الأرض وطمرها بالتراب ، مما جعله ينفتح على فكرة الدفن الّذي يحفظ به جثة أخيه من السباع ، أو من التحوّل إلى جيفة نتنة ، وهكذا : (قالَ يا وَيْلَتى) في تعبير عن الإحساس بالفضيحة أو بالهلاك. (أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ) الصغير الحجم الّذي يعرف ما لا أعرف ، ويتصرف بدراية وخبرة في إدارة أموره ، وأنا العاجز عن القيام بمثل هذا الأمر البسيط الّذي لا يحتاج إلى المزيد من المعرفة ، أو الكثير من التفكير؟ (فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) وأدفنه في التراب لحمايته من السباع أو ظهور رائحته النتنة ، (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) على جريمته بعد انفصاله عن الجو الانفعالي الذي عاش فيه من خلال تأثير عقدة الحسد عليه في قتل أخيه ظلما وعدوانا من دون أيّ ذنب جناه ضدّه ، الأمر الذي جعله يستعيد طبيعة عمله من خلال كل النتائج السلبيّة الحاصلة من ذلك كله على مستوى الدنيا والآخرة. وربّما كان الندم خوفا من افتضاح أمره لدى أهله أو نحو ذلك.
وهكذا استطاع قابيل تعلّم طريقة الدّفن من التجربة الحسيّة للغراب ، ليكون ذلك منهجا للمعرفة بواسطة الحواسّ مما يشاهده الإنسان من فعل المخلوقات الأخرى ، أو ما يسمعه أو يلمسه أو يشمه أو يذوقه ، ليكون ذلك سبيلا لحركة الإدراك في إنتاج المعرفة ، ليستخدم ذلك في الحصول على أغراضه وحاجاته الحيويّة في الدنيا ، فإنّ للحس دورا كبيرا في عمليّة البحث العلمي ، باعتبار أنّ الحواس تزوّد الفكر بالمواد الخام الّتي يستعملها في حركته الفكريّة.