وبين ما نسخناه لك من كلام الرسول صلىاللهعليهوسلم في خطبه ورسائله ، وما عساك تسمعه من كلامه ، ويتساقط إليك من ألفاظه. وأقدر أنك ترى بين الكلامين بونا بعيدا ، أو أمدا مديدا ، وميدانا واسعا ، ومكانا شاسعا ، فإن قلت : لعله أن يكون تعمل للقرآن ، وتصنع لنظمه ، وشبه عليه الشيطان ذلك من خبثه ، فتثبت في نفسك ، وارجع إلى عقلك ، واجمع لبك ، وتيقن أن الخطب يحتشد لها في المواقف العظام ، والمحافل الكبار ، والمواسم الضخام ، ولا يتجوز فيها ولا يستهان بها. والرسائل إلى الملوك مما يجمع لها الكاتب جراميزه ، ويشمر لها عن جد واجتهاد ، فكيف يقع بها الإخلال ، وكيف يتعرض للتفريط ، فستعلم لا محالة أن نظم القرآن من الأمر الإلهي ، وأن كلام النبي صلىاللهعليهوسلم من الأمر النبوي. فإذا أردت زيادة في التبيّن ، وتقدما في التعرف ، وإشرافا على الجلية ، وفوزا بمحكم القضية ، فتأمل ـ هداك الله ـ ما ننسخه لك من خطب الصحابة والبلغاء ، لتعلم أن نسجها ونسج ما نقلنا من خطب النبي صلىاللهعليهوسلم واحد ، وسبكها سبك غير مختلف. وإنما يقع بين كلامه وكلام غيره ما يقع من التفاوت بين كلام الفصيحين ، وبين شعر الشاعرين. وذلك أمر له مقدار معروف ، وحدّ ينتهي إليه مضبوط.
فإذا عرفت أن جميع كلام الآدمي منهاج ، ولجملته طريق ، وتبينت ما يمكن فيه التفاوت ، نظرت أخرى ، وتأملته مرة ثانية ، فتراعى بعد موقعه ، وعالي محله وموضعه ، وحكمت بواجب من اليقين ، وثلج الصدر بأصل الدين.
خطبة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه : قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «أما بعد فإني وليت أمركم ، ولست بخيركم. ولكن نزل القرآن وسن النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وعلّمنا فعلمنا.
واعلموا أن أكيس الكيس التقى. وأن أحمق الحمق الفجور. وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه. وأن أضعفكم عندي القويّ حتى آخذ منه الحق (١).
إيها الناس ، إنما أنا متبع ، ولست بمبتدع ، فإن أحسنت فأعينوني. وإن زغت فقوموني».
عهد أبي بكر الصديق إلى عمر رضي الله عنه : «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر ، خليفة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، آخر عهده بالدنيا ، وأول عهده بالآخرة ، ساعة يؤمن فيها الكافر ، ويتّقي فيها الفاجر (٢).
إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ، فإن برّ وعدل ، فذاك ظني به ، ورأيي فيه.
__________________
(١) تاريخ الخلفاء ص (٦٩).
(٢) تاريخ الخلفاء ص (٨٢).