اللسان عنه ، وهذا خطأ من القول. فصحّ من هذا الوجه ، أن النبي صلىاللهعليهوسلم ، حين أوحى إليه القرآن عرف كونه معجزا ، وبأن قيل له إنه دلالة وعلم على نبوتك أنه كذلك ، من قبل أن يقرأه على غيره أو يتحدى إليه سواه.
ولذلك قلنا : إن المتناهي في الفصاحة والعلم ، بالأساليب التي يقع فيها التفاصح ، متى سمع القرآن عرف أنه معجز ، لأنه يعرف من حال نفسه أنه لا يقدر عليه ، ويعرف من حال غيره ، مثل ما يعرف من حال نفسه ، فيعلم أن عجز غيره كعجزه هو ، وإن كان يحتاج بعد هذا إلى استدلال آخر على أنه علم على نبوة ، ودلالة على رسالة ، بأن يقال له إن هذه آية لنبيه ، وإنما ظهرت عليه وادعاها معجزة له وبرهانا على صدقه.
فإن قيل : فإن من الفصحاء من يعلم عجز نفسه عن قول الشعر ، ولا يعلم مع ذلك عجز غيره عنه. فكذلك التبليغ. وإن علم عجز نفسه عن مثل القرآن فهو قد يخفى عليه عجز غيره. قيل هو مع مستقر العادة ، وإن عجز عن قول الشعر وعلم أنه معجز فإنه يعلم أن الناس لا ينفكون من وجود الشعراء فيهم. ومتى علم البليغ المتناهي في صنوف البلاغات عجزه عن القرآن ، علم عجز غيره لأنه كهو ، لأنه يعلم أن حاله وحال غيره في هذا الباب سواء ، إذ ليس في العادة مثل للقرآن يجوز أو يعلم قدرة أحد من البلغاء عليه.
فإذا لم يكن لذلك مثل في العادة ، وعرف هذا الناظر جميع أساليب الكلام وأنواع الخطاب ، ووجد القرآن مباينا لها ، علم خروجه عن العادة ، وجرى مجرى ما يعلم أن إخراج اليد البيضاء من الجيب خارج عن العادات ، فهو لا يجوزه من نفسه ، وكذلك لا يجوز وقوعه من غيره إلا على وجه نقض العادة. بل يرى وقوعه موقع المعجزة ، وهذا وإن كان يفارق فلق البحر ، وإخراج اليد البيضاء. ونحو ذلك من وجه. وهو أن يستوي الناس في معرفة عجزهم عنه ، فكونه ناقضا للعادة من غير تأمل شديد ، ولا نظر بعيد.
فإن النظر في معرفة إعجاز القرآن يحتاج إلى تأمل ، ويفتقر إلى مراعاة مقدمات ، والكشف عن أمور نحن ذاكروها بعد هذا الموضع. فكل واحد منها يؤول إلى مثل حكم صاحبه في الجمع الذي قدمنا. ومما يبين ما قلناه من أن البليغ المتناهي في وجوه الفصاحة ، يعرف إعجاز القرآن. وتكون معرفته حجة عليه إذا تحدى إليه وعجز عن مثله. وإن لم ينتظر وقوع التحدي في غيره. وما الذي يصنع ذلك الغير ، وهو ما روي في الحديث : أن جبير (١) بن مطعم ورد على النبي صلىاللهعليهوسلم ، في معنى حليف له أراد أن يفاديه فدخل
__________________
(١) جبير بن مطعم بن عدي القرشي النوفلي المكي ثم المدني. أسلم يوم الفتح ، وقيل قبلها ، وحسن إسلامه ، وكان سيدا حكيما وقورا. مات بالمدينة سنة (٥٨) أو (٥٩). له ترجمة في : الرياض ـ