ومنهم من يضبطه
ليعرف تفسيره ومعانيه.
ومنهم من يقصد
بحفظه الفصاحة والبلاغة. ومن الملحدين من يحصّله لينظر في عجيب شأنه.
وكيف يجوز على أهل
هذه الهمم المختلفة ، والآراء المتباينة على كثرة أعدادهم ، واختلاف بلادهم ،
وتفاوت أغراضهم ، أن يجتمعوا على التغيير والتبديل والكتمان؟
ويبين ذلك أنك إذا
تأملت ما ذكر في أكثر السور مما بينا ، ومن نظائره في رد قومه عليه ورد غيرهم ،
وقولهم (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا
مِثْلَ هذا) ، وقول بعضهم : (ما سَمِعْنا بِهذا
فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) ، إلى الوجوه التي يصرف إليها قولهم في الطعن عليه.
فمنهم من يستهين
بها ويجعل ذلك سببا لتركه الإتيان بمثله.
ومنهم من يزعم أنه
مفترى ، فلذلك لا يأتي بمثله.
ومنهم من يزعم أنه
دارس ، وأنه أساطير الأولين. وكرهنا أن نذكر كل آية تدل على تحديه لئلا يقع
التطويل. ولو جاز أن يكون بعضه مكتوما ، جاز على كله. ولو جاز أن يكون بعضه موضوعا
، جاز ذلك في كله. فثبت بما بيناه ، أنه تحدّاهم وأنهم لم يأتوا بمثله.
وهذا الفصل قد
بينا أن الجميع قد ذكروه ، وبنوا عليه ، فإذا ثبت هذا ، وجب أن يعلم بعده أن تركهم
للإتيان بمثله ، كان لعجزهم عنه. والذي يدل على أنهم كانوا عاجزين عن الإتيان بمثل
القرآن ، أنه تحداهم إليه حتى طال التحدي. وجعله دلالة على صدقه ، ونبوّته ،
وتضمّن أحكامه استباحة دمائهم وأموالهم ، وسبى ذريتهم. فلو كانوا يقدرون على
تكذيبه لفعلوا وتوصلوا إلى تخليص أنفسهم وأهليهم وأموالهم من حكمه ، بأمر قريب ،
هو عادتهم في لسانهم ، ومألوف من خطابهم. وكان ذلك يغنيهم عن تكلف القتال وإكثار
المراء والجدال ، وعن الجلاء عن الأوطان ، وعن تسليم الأهل والذرية للسبى.
فلما لم يحصل هناك
معارضة منهم علم أنهم عاجزون عنها يبيّن ذلك أن العدو يقصد لدفع قول عدوه بكل ما
قدر عليه ، من المكايد ، لا سيما مع استعظامه ما أبدعه بالمجيء من خلع آلهته ،
وتسفيه رأيه في ديانته ، وتضليل آبائه ، والتغريب عليه بما جاء به ، وإظهار أمر
يوجب الانقياد لطاعته ، والتصرف على حكم إرادته ، والعدول عن إلفه وعادته ،
والانخراط في سلك الأتباع بعد أن كان متبوعا ، والتشييع بعد أن كان مشيّعا ،
وتحكيم الغير في ماله وتسليطه إياه على جملة أحواله ، والدخول تحت تكاليف شاقة ،
وعبادات متعبة بقوله. وقد
__________________