التوصل إلى ساحل بحره بالتعلم ، ولا يتطرّق إلى غوره بالتسبّب. وكلّ ما يمكن تعلمه ، ويتهيأ تلقنه ، ويمكن تخليصه ، ويستدرك أخذه فلا يجب أن يطلب وقوع الإعجاز به.
ولذلك قلنا : «السجع» مما ليس يلتمس فيه الإعجاز ؛ لأن ذلك أمر محدود وسبيل مورود. ومتى تدرب الإنسان به واعتاده لم يستصعب عليه أن يجعل جميع كلامه منه.
وكذلك «التجنيس» و «التطبيق» متى أخذ أحدهما وطلب وجههما استوفى ما شاء ، ولم يتعذر عليه أن يملأ خطابه منه ، كما أولع بذلك أبو تمام والبحتري. وإن كان البحتري أشغف بالمطابق ، وأقل طلبا للمجانس.
فإن قال قائل : هلا قلت : إن هذين البابين يقع فيهما مرتبة عالية ، لا يوصل إليها بالتعلّم ، ولا تملك بالتعمّل ؛ كما ذكرتم في البيان وغير ذلك؟
قلنا : لو عمد إلى كتاب «الأجناس» ، ونظر في كتاب «العين» ، لم يتعذر عليه التجنيس الكثير.
فأما «الإطباق» فهو أقرب منه ، وليس كذلك البيان. والوجوه التي رأينا الإعجاز فيها ؛ لأنها لا تستوفي بالتعلم. فإن قيل : فالبيان قد يتعلم؟ قيل : إن الذي يمكن أن يتوصل إليه بالتعلم يتفاوت فيه الناس ، وتتناهى فيه العادات. وهو كما يعلم من مقادير القوى في حمل الثقيل. وأن الناس يتقاربون في ذلك فيرمون فيه إلى حد ، فإذا تجاوزوه وقفوا بعده ولم يمكنهم التخطي ، ولم يقدروا على التعدي إلا أن يحصل ما يخرق العادة وينقض العرف. ولن يكون ذلك إلا للدلالة على النبوات على شروط في ذلك.
والقدر الذي يفوت الحد في البيان ، ويتجاوز الوهم ، ويشذ عن الصنعة ، ويقذفه الطبع في النادر القليل ، كالبيت البديع ، والقطعة الشريفة التي تتفق في ديوان شاعر ، والفقرة تتفق في رسالة كاتب. حتى يكون الشاعر ابن بيت أو بيتين أو قطعة أو قطعتين ، والأديب شهيد كلمة أو كلمتين. وذلك أمر قليل.
ولو كان كلامه كله يطرد على ذلك المسلك ، ويستمر على ذلك المنهج ، أمكن أن يدّعى فيه الإعجاز.
ولكنك إن كنت من أهل الصنعة تعلم قلة الأبيات الشوارد ، والكلمات الفرائد ، وأمهات القلائد.
فإن أردت أن تجد قصيدة كلها وحشية ، وأردت أن تراها مثل بيت من أبياتها مرضية ، لم تجد ذلك في الدواوين ، ولم تظفر بذلك إلى يوم الدين.