ثم إنما يذكر الخيال بخفاء الأثر ودقة المطلب ولطف المسلك. وهذا الذي ذكر يضاد هذا الوجه ، ويخالف ما يوضع عليه أصل الباب.
ولا يجوز أن يقدر مقدر أن البحتري قطع الكلام الأول وابتدأ بذكر برق لمع من ناحية حبيبه ، من جهة بطن وجرة ، لأن هذا القطع إن كان فعله كان خارجا به عن النظم المحمود ، ولم يكن مبدعا. ثم كان لا تكون فيه فائدة ، لأن كل برق شعل وتكرر وقع الاهتداء به في الظلام. وكان لا يكون بما نظمه مفيدا ، ولا متقدما ، وهو على ما كان من مقصده ، فهو ذو لفظ محمود ، ومعنى مستحب غير مقصود. ويعلم بمثله أنه طلب العبارات ، وتعليق القول بالإشارات.
وهذا من الشعر الحسن الذي يحلو لفظه وتقل فوائده كقول القائل :
ولما قضينا من منى كل حاجة |
|
ومسّح بالأركان من هو ماسح |
وشدّت على حدب المهارى رحالنا |
|
ولا ينظر الغادي الذي هو رائح |
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا |
|
وسالت بأعناق المطيّ الأباطح |
هذه ألفاظ بعيدة المطالع والمقاطع ، حلوة المجاني والمواقع ، قليلة المعاني والفوائد. فأما قول البحتري بعد ذلك :
من غادة منعت وتمنع نيلها |
|
فلو أنها بذلت لنا لم تبذل |
كالبدر غير مخيل والغصن غ |
|
ير مميل والدّعص غير مهيّل |
فالبيت الأول على ما تكلف فيه من المطابقة وتجشم الصنعة ألفاظه أوفر من معانيه ، وكلماته أكثر من فوائده. وتعلم أن القصد وضع العبارات في مثله. ولو قال : هي ممنوعة مانعة ، كان ينوب عن تطويله ، وتكثيره الكلام وتهويله ثم هو معنى متداول مكرر على كل لسان.
وأما البيت الثاني فأنت تعلم أن التشبيه بالبدر والغصن والدعص أمر منقول متداول ولا فضيلة في التشبيه بنحو ذلك. وإنما يبقى تشبيهة ثلاثة أشياء في البيت ، وهذا أيضا قريب لأن المعنى مكرر ويبقى له بعد ذلك شيء آخر ، وهو تعلمه للترصيع في البيت كله.
إلا أن هذه الاستثناءات فيها ضرب من التكلف ، لأن التشبيه بالغصن كاف. فإذا زاد فقال كالغصن غير معوج ، كان ذلك من باب التكلف خللا. وكان ذلك زيادة يستغنى عنها.
وكذلك قوله : كالدعص غير مهيل ، لأنه إذا انهال خرج عن أن يكون مطلق التشبيه مصروفا إليه. فلا يكون لتقييده معنى وأما قوله :
ما الحسن عندك يا سعاد بمحسن |
|
فيما أتاه ولا الجمال بمجمل |