قال : وسئلت عن
ذلك فقلت : البحتري أعرف بشعر نفسه من غيره. فنحن الآن نقول في هذه القصيدة ما
يصلح في مثل هذا قوله :
أهلا بذلكم
الخيال المقبل
|
|
فعل الذي نهواه
أو لم يفعل
|
برق سرى في بطن
وجرة فاهتدت
|
|
بسناه أعناق
الرّكاب الضّلّل
|
البيت الأول في
قوله : ذلكم الخيال ، ثقل روح ، وتطويل وحشو ، وغيره أصلح له ، وأخف منه قول
الصّنوبري :
أهلا بذاك
الزّور من زور
|
|
شمس بدت في فلك
الدّور
|
وعذوبة الشعر تذهب
بزيادة حرف أو نقصان حرف ، فيصير إلى الكزازة ، وتعود ملاحته بذلك ملوحة ، وفصاحته
عيا ، وبراعته تكلفا ، وسلاسته تعسفا ، وملامسته تلويا وتعقدا. فهذا فصل وفيه شيء
آخر ، وهو : أن هذا الخطاب إنما يستقيم مهما خوطب به الخيال ، حال إقباله. فأما أن
يحكى الحال التي كانت وسلفت على هذه العيادة ، ففيه عهدة. وفي تركيب الكلام عن هذا
المعنى عقدة ، وهو لبراعته وحذقه في هذه الصنعة يعلق نحو هذا الكلام ، ولا ينظر في
عواقبه ، لأن ملاحة قوله تغطي على عيون الناظرين فيه نحو هذه الأمور.
ثم قوله : «فعل
الذي نهواه أو لم يفعل» ليست بكلمة رشيقة ، ولا لفظة ظريفة ، وإن كانت كسائر
الكلام.
فأما بيته الثاني
فهو عظيم الموقع في البهجة وبديع المأخذ ، حسن الرواء ، أنيق المنظر والمسمع ،
يملأ القلب والفهم ويفرح الخاطر. وترى بشاشته في العروق ، وكان البحتري يسمي نحو
هذه الأبيات : «عروق الذهب». وفي نحوه ما يدل على براعته في الصناعة ، وحذقه في
البلاغة.
ومع هذا كله فيه
ما نشرحه من الخلل ، مع الديباجة الحسنة ، والرونق المليح. وذلك أنه جعل الخيال
كالبرق لإشراقه في مسراه ، كما يقال : إنه يسري كنسيم الصبا فيطيب ما مر به. كذلك
يضيء ما مر حوله وينور ما مر به. وهذا غلوّ في الصنعة ، إلا أن ذكره : «بطن وجرة»
حشو ، وفي ذكره خلل ؛ لأن النور القليل يؤثر في بطون الأرض وما اطمأن منها ، بخلاف
ما يؤثر في غيرها. فلم يكن من سبيله أن يربط ذلك ببطن وجرة ، وتحديده المكان على
الحشو أحمد من تحديد امرئ القيس من ذكر : «سقط اللوى بين الدخول فحومل ، فتوضح
فالمقراة» لم يقنع بذكر حد حتى حده بأربع حدود. كأنه يريد بيع المنزل ، فيخشى إن
أخل بحد أن يكون بيعه فاسدا أو شرطه باطلا. فهذا باب.