وإنما أردنا أن نبين الجملة التي بيّناها ، لتعرف أن طريقة الشعر شريعة مورودة ، ومنزلة مشهودة ، يأخذ منها أصحابها على مقادير أسبابهم ، ويتناول منها ذووها على حسب أحوالهم. وأنت تجد للمتقدم معنى قد طمسه المتأخر بما أبرّ عليه فيه. وتجد للمتأخر معنى قد أغفله المتقدم. وتجد معنى قد توافدا عليه ، وتوافيا إليه. فهما فيه شريكا عنان ، وكأنهما فيه رضيعا لبان. والله يؤتي فضله من يشاء.
فأما نهج القرآن ونظمه وتأليفه ورصفه ؛ فإن العقول تتيه في جهته ، وتحار في بحره ، وتضل دون وصفه. ونحن نذكر لك في تفصيل هذا ما تستدل به على الغرض ، وتستولي به على الأمد. وتصل به إلى المقصد. وتتصور إعجازه كما تتصور الشمس ، وتتيقن تناهي بلاغته كما تتيقن الفجر. وأقرّب عليك الغامض ، وأسهّل لك العسير.
واعلم أن هذا علم شريف المحل. عظيم المكان. قليل الطلاب. ضعيف الأصحاب ليست له عشيرة تحميه ، ولا أهل عصمة تفطن لما فيه. وهو أدق من السحر ، وأهول من البحر ، وأعجب من الشعر.
وكيف لا يكون كذلك ، وأنت تحسب أن وضع الصبح في موضع الفجر يحسن في كل كلام ، إلا أن يكون شعرا أو سجعا ، وليس كذلك. فإن إحدى اللفظتين قد تنفر في وضع وتزل عن مكان لا تزل عنه اللفظة الأخرى. بل تتمكن فيه وتضرب بجرانها ، وتراها في مظانها ، وتجدها فيه غير منازعة إلى أوطانها. وتجد الأخرى لو وضعت موضعها في محل نفار ، ومرمى شراد ، ونابية عن استقرار.
ولا أكثر عليك المثال ، ولا أضرب لك فيه الأمثال ، وأرجع بك إلى ما وعدتك من الدلالة. وضمنت لك من تقريب المقالة. فإن كنت لا تعرف الفصل الذي بيّنا بين اللفظتين على اختلاف مواقع الكلام ، ومصرفات مجاري النظام ، لم تستفد مما نقر به عليك شيئا ، وكان التقليد أولى بك ، والاتباع موجب عليك. ولكل شيء سبب ، ولكل علم طريق ، ولا سبيل إلى الوصول إلى الشيء من غير طريقه. ولا بلوغ غايته من غير سبيله. خذ الآن ، هداك الله ، في تفريغ الفكر وتخلية البال ، وانظر فيما نعرض عليك ونهديه إليك ، متوكلا على الله ، ومعتصما به ، ومستعيذا به من الشيطان الرجيم ، حتى تقف على إعجاز القرآن العظيم ، سماه الله ، عز ذكره ، حكيما وعظيما ومجيدا.
وقال : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (١) وقال :
__________________
(١) آية (٤٢) سورة فصلت.