(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٨٥)
____________________________________
فى التوراة وقوله تعالى (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) كما قبله إخبار فى معنى النهى غير السبك إليه لما ذكر من نكتة المبالغة والمراد به النهى الشديد عن تعرض بعض بنى إسرائيل لبعض بالقتل والإجلاء والتعبير عن ذلك بسفك دماء أنفسهم وإخراجها من ديارهم بناء على جريان كل واحد منهم مجرى أنفسهم لما بينهم من الاتصال القوى نسبا ودينا للمبالغة فى الحمل على مراعاة حقوق الميثاق بتصوير المنهى عنه بصورة تكرهها كل نفس وتنفر عنها كل طبيعة فضمير أنفسكم للمخاطبين حتما إذ به يتحقق تنزيل المخرجين منزلتهم كما أن ضمير دياركم للمخرجين قطعا إذ المحذور إنما هو إخراجهم من ديارهم لا من ديار المخاطبين من حيث أنهم مخاطبون كما يفصح عنه ما سيأتى من قوله تعالى (مِنْ دِيارِهِمْ) وإنما الخطاب ههنا باعتبار تنزيل ديارهم منزلة ديار المخاطبين بناء على تنزيل أنفسهم منزلتهم لتأكيد المبالغة وتشديد التشنيع وأما ضمير دماءكم فمحتمل للوجهين مفاد الأول كون المسفوك دماء ادعائية للمخاطبين حقيقة ومفاد الثانى كونه دماء حقيقية للمخاطبين ادعاء وهما متقاربان فى إفادة المبالغة فتدبر وأما ما قيل من أن المعنى لا تباشروا ما يؤدى إلى قتل أنفسكم قصاصا أو ما يبيح سفك دمائكم وإخراجكم من دياركم أو لا تفعلوا ما يرديكم ويصرفكم عن الحياة الأبدية فإنه القتل فى الحقيقة ولا تقترفوا ما تحرمون به عن الجنة التى هى داركم فإنه الجلاء الحقيقى فمما لا يساعده سياق النظم الكريم بل هو نص فيما قلناه كما ستقف عليه (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) أى بالميثاق وبوجوب المحافظة عليه (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) توكيد للإقرار كقولك أقر فلان شاهدا على نفسه وأنتم أيها الحاضرون تشهدون اليوم على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ) خطاب خاص بالحاضرين فيه توبيخ شديد واستبعاد قوى لما ارتكبوه بعد ما كان من الميثاق والإقرار به والشهادة عليه فأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره ومناط الإفادة اختلاف الصفات المنزل منزلة اختلاف الذات والمعنى أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون الناقضون المتناقضون حسبما تعرب عنه الجمل الآتية فإن قوله عزوجل (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) الخ بيان له وتفصيل لأحوالهم المنكرة المندرجة تحت الإشارة ضمنا كأنهم قالوا كيف نحن فقيل تقتلون أنفسكم أى الجارين مجرى أنفسكم كما أشير إليه وقرىء تقتلون بالتشديد للتكثير (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ) الضمير إما للمخاطبين والمضاف محذوف أى من أنفسكم وإما للمقتولين والخطاب باعتبار أنهم جعلوا أنفس المخاطبين وإلا فلا يتحقق التكافؤبين المقتولين والمخرجين فى ذلك العنوان الذى عليه يدور فلك المبالغة فى تأكيد الميثاق حسبما نص عليه ولا يظهر كمال قباحة