ولما كان الصوم نوعا من الصبر حين كان كفّا (١) عن الشهوات قال تعالى : كلّ عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي ، وأنا أجزى به. قال أهل العلم : كل أجر يوزن وزنا ، ويكال كيلا إلا الصوم ، فإنه يحثى حثيا ، ويغرف غرفا ، ولذلك قال مالك : هو الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها ، فلا شك أن كلّ من سلّم فيما أصابه ، وترك ما نهى عنه فلا مقدار لأجره ، وأشار بالصوم إلى أنه من ذلك الباب ، وإن لم يكن جميعه ، والله أعلم.
الآية الثالثة ـ قوله تعالى (٢) : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ في سبب نزولها (٣) :
قال علماؤنا : نزلت مع الآية التي قبلها في ثلاثة نفر : زيد بن عمرو بن نفيل ، وأبى ذر ، وسلمان الفارسي ـ كانوا ممن لم يأتهم كتاب ولا بعث إليهم نبىّ ، ولكن وقر في نفوسهم كراهية ما الناس عليه بما سمعوا من أحسن ما كان في أقوال الناس ، فلا جرم قادهم ذلك إلى الجنة.
أما زيد بن عمرو بن نفيل فمات على التوحيد في أيام الفترة فله ما نوى من الجنة ، وأما أبو ذرّ وسلمان فتداركتهم (٤) العناية ، ونالوا الهداية ، وأسلموا ، وصاروا في جملة الصحابة.
المسألة الثانية ـ قال جماعة : الطاغوت الشيطان ، وقيل : الأصنام. وقال ابن وهب عن مالك : هو كلّ ما عبد من دون الله ، وهو فلعوت (٥) من طغى ، إذا تجاوز الحد ، ودخل في قسم المذموم. فقال ابن إسحاق : كانت العرب قد اتخذت في الكعبة (٦) طواغيت ، وهي ستون ، كانت تعظّمها بتعظيم الكعبة ، وتهدى إليها كما تهدى إلى الكعبة ، وكان لها سدنة وحجّاب ، وكانت تطوف بها ، وتعرف فضل الكعبة عليها.
وقيل : كان الشيطان يتصوّر في صورة إنسان فيتحاكمون إليه ، وهي صورة إبراهيم.
وفي الحديث : إنه يأتى شيطان في صورة رجل فيقول : قال رسول صلّى الله عليه وسلم ـ
__________________
(١) في ش : كف.
(٢) آية ١٧.
(٣) أسباب النزول للسيوطي ١٤٧ ، والواحد ٢١٠
(٤) هكذا في الأصول.
(٥) القاموس ، واللسان ـ طغا.
(٦) في ش : مع الكعبة. (٥ ـ أحكام ـ ٤).