وعينهما جماعة ، فقالوا : إنهما كانا جبريل وميكائيل ، وربك أعلم في ذلك بالتفصيل ، بيد أنى أقول لكم قولا تستدلون به على الغرض ، وذلك أن محراب داود كان من الامتناع بالارتفاع بحيث لا يرقى إليه آدمي بحيلة إلا أن يقيم إليه أياما أو أشهرا بحسب طاقته ، مع أعوان يكثر عددهم ، وآلات جمّة مختلفة الأنواع.
ولو قلنا إنه يوصل إليه من باب المحراب لما قال الله تعالى ـ مخبرا عن ذلك : (تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) ؛ إذ لا يقال تسوّر المحراب والغرفة لمن طلع إليها من درجها ، وجاءها من أسفلها ، إلا أن يكون ذلك مجازا. وإذا شاهدت الكوّة التي يقال إنه دخل منها الخصمان علمت قطعا أنهما ملكان ، لأنها من العلو بحيث لا ينالها إلا علوي ، ولا نبالى من كانا (١) فإنه لا يزيدك بيانا ، وإنما الحكم المطلوب وراء ذلك.
المسألة الخامسة ـ قوله : (فَفَزِعَ مِنْهُمْ).
فإن قيل : لم فزع وهو نبىّ وقد قويت نفسه بالنبوة ، واطمأنّت بالوحي ، ووثقت بما آتاه الله من المنزلة ، وأظهر على يديه من الآيات؟
قلنا : لأنه لم يضمن له العصمة ، ولا أمن من القتل والإذاية ، ومنهما كان يخاف ، وقد قال الله لموسى عليه السلام : لا تخف. وقبله قيل ذلك للوط ، فهم فزعون (٢) من خوف ما لم يكن قيل لهم [فيه] (٣) : إنكم منه معصومون.
المسألة السادسة ـ قوله : (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ).
أى نحن خصمان. وإن قيل : كيف لم يأمر بإخراجهم إذ علم مطلبهم ، وقد دخلوا عليه بغير إذن ، وهلّا أدّبهم على تعدّيهم؟
فالجواب عنه من أربعة أوجه :
الأول ـ أنا لا نعلم كيفية شرعه في الحجاب والإذن ، فيكون الجواب على حسب تلك الأحكام. وقد كان ذلك في ابتداء شرعنا مهملا عن هذه الأحكام ، حتى أوضحها الله تعالى بالبيان.
__________________
(١) في م ، ش : من كانا فيه.
(٢) في ا : مؤمنون.
(٣) من ش.