المسألة الثانية عشرة ـ أما عقد الهدنة بين المسلمين والكفار فجائز على ما مضى من سورة الأنفال لمدة ومطلقا إليهم لغير مدة.
فأما عقده على أن يردّ من أسلم إليهم فلا يجوز لأحد بعد النبي صلّى الله عليه وسلم ، وإنما جوّزه الله له لما علم في ذلك من الحكمة ، وقضى فيه من المصلحة ، وأظهر فيه بعد ذلك من حسن العاقبة وحميد الأثر في الإسلام ما حمل الكفار على الرضا بإسقاطه ، والشفاعة في حطّه ، ففي الصحيح : لما كاتب رسول الله صلّى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو يوم الحديبية على قصر المدة ، فجاءه أبو بصير ـ رجل من قريش ـ وهو مسلم ، فأرسلوا في طلبه رجلين ، فدفعه إلى الرجلين ، فخرجا به حتى بلغا به ذا الحليفة فنزلوا يأكلون ، فقتل أبو بصير أحدهما ، وفّر الآخر ، حتى أتى المدينة ، فدخل المسجد يعدو. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : لقد رأى هذا ذعرا ، فجاء أبو بصير ، فقال يا رسول الله ، قد أوفى الله ذمّتك ، ثم أنجانى منهم. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم : ويل امّه مسعر حرب لو كان معه رجال! فلما سمع ذلك عرف أنه سيردّه إليهم ، فخرج حتى أتى سيف البحر (١) ، قال : وتفلّت منهم أبو جندب ابن سهيل ، فلحق بأبى بصير ، وجعل لا يخرج رجل من قريش أسلم إلا لحق بأبى بصير ، حتى اجتمعت منهم عصّابة ، فو الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوهم فقتلوهم ، وأخذوا بأموالهم. فأرسلت قريش إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلم تنشده الله والرّحم إلا أرسل إليهم ، فمن أتاه فهو آمن. فأرسل النبي صلّى الله عليه وسلم إليهم ، فأنزل الله (٢) : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) .. الآية ... إلى (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) ، فظنّ الناس أنّ ذلك كان من النبي صلّى الله عليه وسلم في الانقياد إليهم عن هوان ، وإنما كان عن حكمة حسن مآلها ، كما سقناه آنفا من الرواية ، والله أعلم.
الآية السادسة ـ قوله تعالى (٣) : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ
__________________
(١) سيف البحر : ساحله.
(٢) سورة الفتح ، الآيات : ٢٤ ـ ٢٦.
(٣) آية ١١.