وهذه الروايات كلها ساقطة الأسانيد ، إنما الصحيح منها ما روى عن عائشة أنها قالت : لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما من الوحى شيئا لكتم هذه الآية : وإذ تقول للذي أنعم الله عليه ـ يعنى بالإسلام ، وأنعمت عليه ـ يعنى بالعتق ، فأعتقته : أمسك عليك زوجك ، واتّق الله ، وتخفى في نفسك ما الله مبديه ، وتخشى الناس والله أحقّ أن تخشاه ... إلى قوله : وكان أمر الله مفعولا. وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا تزوّجها قالوا : تزوّج حليلة ابنه ، فأنزل الله تعالى (١) : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبنّاه وهو صغير ، فلبث حتى صار رجلا ، يقال له زيد بن محمد ، فأنزل الله تعالى (٢) : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ).
فلان مولى فلان ، وفلان أخو فلان ، هو أقسط عند الله ، يعنى أنه أعدل عند الله.
قال القاضي : وما وراء هذه الرواية غير معتبر ، فأما قولهم : إنّ النبي صلى الله عليه وسلم رآها فوقعت في قلبه فباطل ؛ فإنه كان معها في كلّ وقت وموضع ، ولم يكن حينئذ حجاب ، فكيف تنشأ معه وينشأ معها ويلحظها في كل ساعة ، ولا تقع في قلبه إلا إذا كان لها زوج ، وقد وهبته نفسها ، وكرهت غيره ، فلم تخطر بباله ، فكيف يتجدّد له هوى لم يكن ، حاشا لذلك القلب المطهّر من هذه العلاقة الفاسدة.
وقد قال الله له (٣) : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ). والنساء أفتن الزهرات وأنشر الرياحين ، فيخالف هذا في المطلقات ، فكيف في المنكوحات المحبوسات.
وإنما كان الحديث أنها لما استقرّت عند زيد جاءه جبريل : إنّ زينب زوجك ، ولم يكن بأسرع أن جاءه زيد يتبرّأ منها ، فقال له : اتّق الله ، وأمسك عليك زوجك ، فأبى زيد إلا الفراق ، وطلّقها وانقضت عدّتها ، وخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على يدي مولاه زوجها ، وأنزل الله القرآن المذكور فيه خبرهما ، هذه الآيات التي تلوناها وفسرناها ، فقال :
__________________
(١) سورة الأحزاب ، آية ٥.
(٢) سورة طه ، ١٣١.