الثاني ـ تخشى الناس أن يعاتبوك ، وعتاب الله أحقّ أن تخشاه.
الثالث ـ وتخشى الناس أن يتكلّموا فيك.
وقيل : أن يفتتنوا من أجلك ، وينسبوك إلى ما لا ينبغي. والله أحقّ أن تخشاه ، فإنه مالك القلوب ، وبيده النواصي والألسنة.
المسألة الخامسة ـ في تنقيح الأقوال وتصحيح الحال :
قد بينّا في السالف من كتابنا هذا وفي غير موضع عصمة الأنبياء صلوات الله عليهم من الذنوب ، وحقّقنا القول فيما نسب إليهم من ذلك ، وعهدنا إليكم عهدا لن تجدوا له ردّا أنّ أحدا لا ينبغي أن يذكر نبيّا إلّا بما ذكره الله ، لا يزيد عليه ، فإن أخبارهم مرويّة ، وأحاديثهم منقولة بزيادات تولّاها أحد رجلين : إما غبىّ عن مقدارهم ، وإما بدعىّ لا رأى له في برّهم ووقارهم ، فيدسّ تحت المقال المطلق الدواهي ، ولا يراعى الأدلة ولا النواهي ، وكذلك قال الله تعالى (١) : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) ، أى أصدقه على أحد التأويلات ، وهي كثيرة بيناها في أمالى أنوار الفجر ، فهذا محمد صلى الله عليه وسلم ما عصى قطّ ربّه ، لا في حال الجاهلية ولا بعدها ، تكرمة من الله وتفضّلا وجلالا ، أجلّه به المجل الجليل الرفيع ، ليصلح أن يقعد معه على كرسيه للفصل بين الخلق في القضاء يوم الحق.
وما زالت الأسباب الكريمة ، والوسائل السليمة تحيط به من جميع جوانبه ، والطرائف النجيبة تشتمل على جملة ضرائبه ، والقرناء الأفراد يحيون له ، والأصحاب الأمجاد ينتقون له من كل طاهر الجيب ، سالم عن العيب ، برىء من الرّيب ، يأخذونه عن العزلة ، وينقلونه عن الوحدة ، فلا ينتقل إلّا من كرامة إلى كرامة ، ولا يتنزل إلا منازل السلامة ، حتى فجيء بالحيىّ نقابا ، أكرم الخلق سليقة وأصحابا ، وكانت عصمته من الله فضلا لا استحقاقا ، إذ لا يستحق عليه شيئا رحمة لا مصلحة ، كما تقوله القدرية للخلق ، بل مجرد كرامة له ، ورحمة به ، وتفضّل عليه ، واصطفاء له ، فلم يقع قط لا في ذنب صغير ـ حاشا لله ـ ولا كبير ، ولا وقع في أمر يتعلّق به لأجله نقص ، ولا تعيير. وقد مهدنا ذلك في كتب الأصول.
__________________
(١) سورة يوسف ، آية ٣.