فدخلت ، فسلّمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو متّكئ على رمال(١) حصير ، قد أثّر في جنبه ، ما بينه وبينه شيء ، وتحت رأسه وسادة من أدم ، حشوها ليف. فقلت : يا رسول الله ، أطلّقت نساءك؟ ما يشقّ عليك من أمر النساء؟ فإن كنت طلقتهن فإنّ الله معك وملائكته وجبريل ، وأنا وأبا بكر والمؤمنين.
قال : وقلما تكلمت وأحمد الله بكلام إلا رجوت أنّ الله يصدق قولي الذي أقول ، ونزلت هذه الآية ـ آية التخيير (٢) : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ ...).
فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه إلىّ فقال : لا. فقلت : الله أكبر ، لو رأيتنا يا رسول الله ، وكنا ـ معشر قريش ـ نغلب النساء ، فقدمنا المدينة فوجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم فتغضّبت على امرأتى يوما ، فإذا هي تراجعني ، فأنكرت أن تراجعني. قالت : ما تنكر أن أراجعك. فو الله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. فقلت : قد خاب من فعل ذلك منهن وخسر ، أفتأمن إحداهنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هي قد هلكت.
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ، قد دخلت على حفصة فقلت : لا يغرنّك أن كانت جارتك هي أوسم وأحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك. فتبسّم أخرى ، وإنى لما قصصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث أم سلمة تبسّم ، ولم أزل أحدّثه حتى انحسر الغضب عن وجهه وكشر ، (٣) وكان من أحسن الناس ثغرا.
فقلت : أستأنس يا رسول الله عليك! قال : نعم. فجلست فرفعت بصرى في البيت ، فو الله ما رأيت فيه شيئا يردّ البصر ، إلا أهبا (٤) ثلاثة ، وإلا قبضة من شعير نحو الصاع ،
__________________
(١) الرمال : ما رمل ، أى نسج. وقيل : الرمال جمع رمل بمعنى مرمول كخلق بمعنى مخلوق. والمراد أنه كان السرير قد نسج وجهه بالسعف ولم يكن على السرير وطاء سوى الحصير (النهاية).
(٢) سورة التحريم ، آية ٥.
(٣) كشر عن أسنانه يكشر كشرا : أبدى ، يكون في الضحك وغيره.
(٤) الإهاب ككتاب : الجلد ، أو ما لم يدبغ ، جمعه آهبة ، وأهب بضمتين ، وأهب ، بفتحتين (القاموس).