الآية الخامسة ـ قوله تعالى (١) : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ في التوكّل ، وهو تفعّل من الوكالة ، أى اتخذه وكيلا. وقد بيناه في كتاب الأمد ، وهو إظهار العجز والاعتماد على الغير.
المسألة الثانية ـ أصل هذا علم العبد بأنّ المخلوقات كلّها من الله ، لا يقدر أحد على الإيجاد سواه ، فإن كان له مراد ، وعلم أنه بيد الذي لا يكون إلّا ما أراد ، جعل له أصل التوكل ، وهذا فرض عين ، وبه يصحّ الإيمان الذي هو شرط التوكل ، قال الله تعالى (٢) : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
المسألة الثالثة ـ يتركب على هذا من سكون القلب ، وزوال الانزعاج والاضطراب ، أحوال تلحق بالتوكّل في كماله ، ولهذه الأحوال أقسام ، ولكل قسم اسم :
الحالة الأولى ـ أن يكتفى بما في يده ، لا يطلب الزيادة عليه ، واسمه القناعة.
الحالة الثانية ـ أن يكتسب زيادة على ما في يده ، ولا ينفى ذلك التوكّل عندنا. قال النبي صلى الله عليه وسلم : لو توكّلتم على الله حقّ توكله لرزقكم ، كما يرزق الطير ، تغدو خماصا ، وتروح بطانا (٣).
فإن قيل : هذا حجة عليك ، لأن الطير لا تزيد على ما في اليد ولا تدّخر لغد.
قلنا : إنما الاحتجاج بالغدوّ والرواح والاعتمال في الطلب.
فإن قيل : أراد بقوله : تغدو في الطاعة ، بدليل قوله (٤) : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى).
قلنا : إنما أراد بالغدوّ الاغتداء في طلب الرزق ، فأما الإقبال على العبادة ـ وهي الحالة الثالثة ، وهو أن يقبل على العبادة ويترك طلب العادة ـ فإن الله يفتح له. وعلى هذا كان أهل الصّفة ، وهذه حالة لا يقدر عليها أكثر الخلق ، وبعد هذا مقامات في التفويض والاستسلام ، وقد بيناها في كتاب أنوار الفجر ، والله الموفق.
__________________
(١) آية ٥٨.
(٢) سورة المائدة ، آية ٢٣.
(٣) أى تغدو بكرة وهي جياع ، وتروح عشاء وهي ممتلئة الأجواف (النهاية).
(٤) سورة طه ، آية ١٣٢.