وقد روى أشهب ، ويحيى بن بكير ، وعبد الله بن عبد الحكم ، عن مالك ـ أنّ هذه الآية إنما كانت في حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ، وكذلك قال محمد ابن إسحاق. والذي بيّن ذلك أمران صحيحان :
أما أحدهما ـ فهو قوله تعالى في الآية الأخرى (١) : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) ، وذلك أنّ المنافقين كانوا يتلوّذون ، ويخرجون عن الجماعة ، ويتركون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر الله جميعهم بألا يخرج [أحد] (٢) حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبذلك يتبيّن إيمانه.
وأما الثاني فهو قوله تعالى : (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) ، فأى إذن في الحدث (٣) والإمام يخطب ، وليس للإمام خيار في منعه ولا إبقائه ، وقد قال : (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) ، فبيّن بذلك أنه مخصوص في الحرب التي يؤثر فيها التفرّق. أما إن الآية تدلّ بقوة معناها على أن من حضر جماعة لا يخرج إلا لعذر بيّن أو بإذن قائم من مالك الجماعة ومقدّمها ، وذلك أنّ الاجتماع كان لغرض ، فما لم يتم الغرض لم يكن للتفرق أصل ، وإذا كمل الغرض جاز التفرق.
المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) ، فكان النبىّ صلى الله عليه وسلم بالخيار إن شاء أذن له إذا رأى ذلك ضرورة للمستأذن ، ولم ير فيه مضرّة على الجماعة ، أذن بنظر ، أو منع بنظر.
وقد روى مكحول أنّ الرجل يوم الجمعة إذا رعف (٤) أو أحدث يجعل يده على أنفه ، ويشير إلى الإمام فيشير له الإمام بيده أن اخرج.
وقال ابن سيرين : كانوا يستأذنون الإمام وهو على المنبر ، فلما كثر ذلك قال زياد : من جعل يده على أنفه فليخرج دون إذن. وقد كان هذا بالمدينة ، حتى إنّ سهيل بن أبى صالح رعف يوما في الجمعة فاستأذن الإمام ، ولكنّ الأمر كما بينا من أنه لا يحتاج إليه ، إذ لا إذن فيه ، ولا خيرة ولا مشيئة تتعلّق به ، وإنما هو أمر صاحبه مؤتمن عليه ، فيخرج إذا شاء ، ويجلس إذا شاء.
__________________
(١) سورة النور ، آية ٦٣ ، وستأتى بعد هذه.
(٢) من القرطبي.
(٣) في ا : الحديث.
(٤) رعف ـ كنصر ومنع وكرم وعنى وسمع : خرج من أنفه الدم (القاموس).