الثاني ـ أنها نزلت في قوم من العرب كانوا إذا نزل بهم ضيف تحرّجوا عن أن يأكل وحده حتى يأكلوا معه.
الثالث ـ أنها نزلت في قوم كانوا يتحرّجون أن يأكلوا جميعا ، ويقول الرجل : آكل وحدي.
الرابع ـ أنها نزلت في المسافرين يخلطون أزودتهم ، فلا يأكل أحد حتى يأتى الآخر ، فأبيح ذلك لهم.
وهذا القول تضمّن جميع ذلك ، فيجوز للرجل أن يأكل مع الآخر ، وللجماعة ، وإن كان أكلهم لا ينضبط ، فقد يأكل الرجل قليلا والآخر كثيرا ، وقد يأكل البصير أكثر مما يأكل الأعمى ، فنفى الله الحرج عن ذلك كله ، وأباح للجميع الاشتراك في الأكل على المعهود ، ما لم يكن قصدا إلى الزيادة ، كما روى ابن عمر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القران (١) في التمر إلّا أن يستأذن الرجل أخاه. وهذا هو النّهد (٢) الذي يجتمع عليه القوم ، وسواء كان مشترى منهم ، أو كان بخلطهم له فيما بينهم ، فإن كان طعام ضيافة أو وليمة فلا يلزم ذلك فيه ، لأنّ كلّ واحد منهم يأكل من مال غيره ، لا سيما ونحن نقول : إن طعام الضّيافة والوليمة يأكله الحاضرون على ملك صاحبه على أحد القولين ، وهو الصحيح ، حسبما بينّاه في أصول الفقه ، ولذلك لم تجز التغدية والتعشية عندنا في طعام الكفّارة على ما بيناه في موضعه.
وقد روى البخارىّ في النّهد (٣) حديث أبى عبيدة في جمع الأزواد ، وكان يغدّيهم كل يوم تمرة تمرة. وحديث عمر في نحر الإبل ومنعه من ذلك ، وجمع النبىّ صلى الله عليه وسلم أزواد الجيش ، وبرّك عليها ، ثم احتثى كلّ أحد في مزوده ووعائه من غير تسوية ،
__________________
(١) القرآن : أن يقرن بين التمرتين في الأكل. وإنما نهى عنه لأن فيه شرها وذلك يزرى بصاحبه أو لأن فيه غبنا برفيقه (النهاية). ويروى الإقران ، والأول أصح.
(٢) النهد : ما تخرجه الرفقة عند المناهدة ، وهو استقسام النفقة بالسفر في السفر وغيره. والعرب تقول : هات نهدك ـ بكسر النون. قال المهلب : وطعام النهد لم يوضع للآكلين على أنهم يأكلونه بالسواء وإنما يأكل كل واحد على قدر نهمته. وقد يأكل الرجل أكثر من غيره (القرطبي : ١٢ ـ ٣١٧).