الثانية ـ أن يطلبها العبد ، ويأباها السيد ، وفيه قولان :
الأول ـ لعكرمة وعطاء أن ذلك واجب على السيّد.
وقال سائر علماء الأمصار : لا يجب ذلك عليه. وتعلّق من أوجبها بمطلق قوله تعالى: (فَكاتِبُوهُمْ). وافعل (١) بمطلقه على الوجوب حتى يأتى الدليل بغيره ، وهذه مسألة أصولية قد بيّناها في أصول الفقه ولا نسلّمها لهم ، بل نقول : إنّ لفظ «افعل» لاقتضاء الفعل والوجوب يكون بتعلّق الذم بتركه ، والاقتضاء يستقلّ به الاستحباب ، فأين دليل الوجوب وهذا هو الأصل الذي لا مزعزع له. أما إن من علمائنا المتمرّسين بالفقه سلموا أنّ مطلق «افعل» على الوجوب ، وادعوا أن الدليل هاهنا قد قام على سقوط الوجوب من ثلاثة أوجه :
الأول ـ أن الكتابة إذا طلبها العبد ففيها إخراج ملك السيد من يده بغير اختياره ، ولا أصل لذلك في الشريعة ، بل أصول الشريعة كلها تقتضي ألّا يخرج ملك أحد عن يده إلا باختياره؟ وما جاء بخلاف الأصول لا يلتفت إليه.
وهذا لا يلزم ، لأن الآية عندنا أو الحديث إذا جاء بخلاف الأصول فهو أصل بنفسه ، ويرجع إليه في بابه ، ويجرى على حكمه ، كما بيناه في مسائل المضرات من كتب الخلاف ، وفي تعارض الأدلة من كتب أصول الفقه.
الثاني ـ قالوا : إنما يكون مطلق الأمر يقتضى الوجوب إذا تعرّى عن قرينة ، وهاهنا قرينة تقتضي صرفه عن الوجوب ، وهو تعليقه بشرط علم الخير فيه ، فتعلّق الوجوب على أمر باطن ، وهو علم السيد بالخير فيه (٢).
وإذا قال العبد : كاتبني ، فقال السيد : لم أعلم فيك خيرا ، وهو أمر باطن ، فيرجع فيه إليه ، ويعوّل عليه ، وهو قوىّ في بابه.
الثالث ـ قال علماؤنا : مال العبد وأكسابه ملك السيد ، ورقبته ملك له ، فإذا قال العبد : خذ كسبي وخلّص رقبتي فهو يطالبه بتفويت ملكه عنه ، فكأنه يقول : أعتقنى. وذلك لا يلزم ، وهو كلام قوىّ في الباب على مثبتى الاجتهاد ، ومن ردّه لا يلتفت إليه.
__________________
(١) يريد الأمر.
(٢) في القرطبي : بالخيرية.