في رسله وسيرته في أنبيائه أنهم إذا قالوا عن الله قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه ، كما يفعل سائر المعاصي ، كما تقول : ألقيت في الدار كذا ، وألقيت في العكم (١) كذا ، وألقيت في الكيس كذا. فهذا نص في أنّ الشيطان زاد في الذي قاله النبىّ صلى الله عليه وسلم ، لا أنّ النبي قاله ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ تلا قرآنا مقطعا ، وسكت في مقاطع الآي سكوتا محصلا ، وكذلك كان حديثه مترسلا فيه متأنّيا ، فيتبع الشيطان تلك السكتات التي بين قوله : (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ، وبين قوله تعالى : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) ، فقال ـ يحاكى صوت النبي صلى الله عليه وسلم : وإنهن الغرانقة العلا ، وإن شفاعتهنّ لترتجى.
فأما المشركون والذين في قلوبهم مرض ـ لقلّة البصيرة وفساد السريرة ـ فتلوها عن النبىّ صلى الله عليه وسلم ، ونسبوها بجهلهم إليه ، حتى سجدوا معه اعتقادا أنه معهم ، وعلم الذين أوتوا العلم والإيمان أن القرآن حقّ من عند الله فيؤمنون به ، ويرفضون غيره ، وتجيب قلوبهم إلى الحق ، وتنفر عن الباطل ، وكلّ ذلك ابتلاء من الله ومحنة. فأين هذا من قولهم! وليس في القرآن إلّا غاية البيان بصيانة النبىّ صلى الله عليه وسلم في الإسرار والإعلان ، عن الشكّ والكفران.
وقد أوعدنا إليكم توصية أن تجعلوا القرآن إمامكم ، وحروفه أمامكم ، فلا تحملوا عليها ما ليس فيها ، ولا تربطوا فيها ما ليس منها ، وما هدى لهذا إلا الطبري بجلالة (٢) قدره ، وصفاء فكره ، وسعة باعه في العلم ، وشدة ساعده وذراعه في النّظر ، وكأنه أشار إلى هذا الغرض ، وصوّب على هذا المرمى ، فقرطس (٣) بعد ما ذكر في ذلك روايات كثيرة كلّها باطلة ، لا أصل لها ، ولو شاء ربّك لما رواها أحد ولا سطرها ، ولكنه فعّال لما يريد ، عصمنا الله وإياكم بالتوفيق والتسديد ، وجعلنا من أهل التوحيد بفضله ورحمته.
__________________
(١) العكم ـ بالكسر : نمط تجعل المرأة فيه ذخيرتها (القاموس).
(٢) في القرطبي : لجلالة قدره.
(٣) أصل قرطس : أصاب القرطاس.