وَلَوْ
لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً. إِذاً
لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا
نَصِيراً).
فما
زال مغموما مهموما حتى نزلت : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ).
وفي رواية أنّ جبريل قال له : لقد تلوت يا محمد
على الناس شيئا لم آتك به ، فحزن وخاف خوفا شديدا ، فأنزل الله عليه : إنه لم يكن
قبله رسول ولا نبىّ تمنى كما تمنّى ، وأحب كما أحب ، إلا والشيطان قد ألقى في
أمنيته كما ألقى الشيطان على لسانه.
المسألة الثانية ـ
اعلموا أنار الله أفئدتكم بنور هداه ، ويسّر لكم مقصد التوحيد ومغزاه ـ أنّ الهدى
هدى الله ، فسبحان من يتفضّل به على من يشاء ، ويصرفه عمن يشاء ، وقد بيّنا معنى
الآية في فصل تنبيه الغبىّ على مقدار النبىّ بما نرجو به عند الله الجزاء الأوفى ،
في مقام الزّلفى ، ونحن الآن نجلو بتلك الفصول الغماء ، ونرقيكم بها عن حضيض الدهماء
، إلى بقاع العلماء في عشرة مقامات :
المقام الأوّل ـ أن
النبىّ إذا أرسل الله إليه الملك بوحيه ، فإنه يخلق له العلم به ، حتى يتحقق أنه
رسول من عنده ، ولو لا ذلك ما صحّت الرسالة ، ولا تبيّنت النبوة ، فإذا خلق الله
له العلم به تميّز عنده من غيره ، وثبت اليقين ، واستقام سبيل الدين ، ولو كان
النبىّ إذا شافهه الملك بالوحي لا يدرى أملك هو أم شيطان ، أم إنسان ، أم صورة
مخالفة لهذه الأجناس ألقت عليه كلاما ، وبلّغت إليه قولا ـ لم يصح له أن يقول :
إنه من عند الله ، ولا ثبت عندنا أنه أمر الله ، فهذه سبيل متيقّنة ، وحالة متحققة
، لا بد منها ، ولا خلاف في المنقول ولا في المعقول فيها ، ولو جاز للشيطان أن
يتمثّل فيها ، أو يتشبّه بها ما أمنّاه على آية ، ولا عرفنا منه باطلا من حقيقة ،
فارتفع بهذا الفصل اللّبس ، وصحّ اليقين في النفس.
المقام الثاني ـ أنّ
الله قد عصم رسوله من الكفر ، وأمنه من الشرك ، واستقرّ ذلك من دين المسلمين
بإجماعهم فيه ، وإطباقهم عليه ، فمن ادّعى أنه يجوز عليه أن يكفر بالله ، أو يشكّ
فيه طرفة عين ، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ، بل لا تجوز عليه المعاصي في
الأفعال ، فضلا عن أن ينسب إلى الكفر في الاعتقاد ، بل هو المنزّه عن ذلك فعلا واعتقادا.
وقد مهّدنا ذلك في كتب الأصول بأوضح دليل.